يحصد الموت يوميا الكثير من أرواح البشر لاسباب مختلفة: «تعددت الأسباب والموت واحد»، ومن يقف عند المقابر ويتأمل من يسكنونها.. كيف كانوا بصحة وقوة وكبرياء وغرور، وبينهم أصحاب سلطة وأثرياء وقادة دول.. وكيف أصبحوا الآن؟ يلحظ كم هو الانسان ضعيف! وكما يقول الكاتب الاميركي تود هنري في كتابه «مت فارغا": «ان المقبرة هي أغنى أرض في العالم، لان ملايين البشر رحلوا وهم يحملون الكثير من الافكار القيمة، التي لم تخرج للنور ولم يستفد منها أحد سوى المقبرة"!
ويجد الزائر لمدينة أم قيس «جدارا» التاريخية في شمال الاردن، عبارة من أجمل الأقوال المأثورة، منقوشة على حجر منصوب على قبر الشــاعر القديــم «أرابيوس» تقول: «أيّهـَا المـَارُّ مِن هـُنا، كمَا أنت الآنَ، كنت أنا، وكمـَا أنا الآن، سـَـتكون أنت، فتمتـّع بالحياةِ لأنكَ فان»، أي ميت لا محالة!
فالموت هو الحقيقة المطلقة الراسخة في الحياة منذ بدء الخليقة، لذلك لا تحمل الكتابة عن الموت شيئا جديدا، لكن بعض الحالات تستحق التوقف عندها، لجهة التأمل بخلفياتها والدروس المستفادة منها.
وأود الاشارة الى حالة تخصني شخصيا، وتتعلق بحالة مرضية أصابتني فجأة عام 2018، ولم أرغب بإبلاغ أحد حتى أقرب الناس لي، لأنني أعتقد أن المرض شأن شخصي الا في الحالات القاهرة، ولم يكن يعنيني نشر خبر على الفيسبوك وصوري في المستشفى، لجمع اللايكات وتعليقات رقيقة مثل: الحمد لله على السلامة.. وغير ذلك من كلمات التضامن والتعبير عن المشاعر الانسانية.
خضعت لعملية جراجية طارئة وحساسة لازالة نزيف دموي على الدماغ، وخلال عدة ساعات كنت تحت التخدير الكامل، بمعنى على حافة الموت بين يدي الخالق، أو في حالة «موت مؤقت»، وكان أي خطأ طبي بسيط قد يؤدي الى نتيجة كارثية، والتسليم بأن حياة الانسان يمكن أن تنتهي كلمح البصر، عندما يحين موعد القضاء والقدر!
وخطر في بالي تخيل ما يفكر به الناس الأحياء، خلال المشاركة بتشييع المتوفين أو الحضور الشخصي المباشر الى بيوت العزاء، أو النعي بالصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال مشاهداتي لجموع المعزين في الكثير من مناسبات الوفاة، يلفتني العديد من المعزين يحضرون لاثبات الوجود ولمجاملة أهل المتوفى، الى درجة أنه قلما تسمع أحدا يتحدث عن الميت ومناقبه وكيف توفى... الخ، بل أن البعض همه الحديث عن «المناسف»، وكيف كان مذاقها ونوع اللحمة المقدمة!
وفي مجتمعنا نلاحظ أعداداً كبيرة من المعزين، يحضرون اذا كان المتوفى وذووه أصحاب نفوذ، ويلاحظ ذلك أيضا في إعلانات «الشكر على تعاز»، التي ينشرها أهل المتوفى وتكلف مبالغ كبيرة في الصحف بمساحات كبيرة، ويخصون بالذكر «أصحاب الدولة والمعالي والعطوفة وكبار المسؤولين.. الخ»، في تمييز واضح بين الناس حسب المستوى الوظيفي والاجتماعي والمالي، وذلك جزء من ثقافة النفاق!
وبطبيعة الحال الميت لا يعرف ماذا يحدث بعد رحيله؟ وأنا تخيلت أن الذين عبروا لي عن تضامنهم وتمنوا لي السلامة، من العملية الجراحية قد يكونون هم المعزين في حالة الوفاة، أو يكتبون نعيا أو يجرون اتصالا مع المقربين، وفي الحقيقة أن الكثير من المعزين يشاركون بأداء الواجب لا يعرفون المتوفى، لكنهم يعزون إكراما لذوي المتوفى.
وفي هذا المشهد المتخيل يستطيع المتوفى تصور عدد المعزين وأصحاب المشاعر الصادقة، في التعبير عن الحزن والمواساة! لكن في كل الأحوال فان التداعيات الانسانية لحالة الوفاة حتى لأصحاب النفوذ، تستمر عدة أيام ثم تمضي الحياة كالمعتاد، ويبقى ما يتركه المتوفى من التزامات مالية واجتماعية يلتزم بها الورثة والمقربون!