تمادت بعض الجهات في التشكيك في المواقف والجهود الأردنية، وكالعادة، تعامل الأردن باستراتيجيته التاريخية، التغاضي والترفع.
بخصوص الجهات الخارجية فالأردن لم يشتبك في حملات إعلامية موسعة خلال عقود من التراشقات البينية في المنطقة العربية، وكثيراً ما لم يكن الإعلاميون الشباب يستوعبون هذه المعادلة، ولكن بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من الكتابة في صحيفة الرأي، أعتقد أن نموذج العمل يتمثل في الالتزام بمبدأ: "فلتقل خيراً أو لتصمت".
أما الحملات الداخلية، فتعويلها على التسامح بوصفه جزءاً أصيلاً من السياسة الأردنية، والأمثلة كثيراً، ولا توجد أوضاع مستدامة في الأردن.
على الرغم من ذلك، فإن رئيس الوزراء بشر الخصاونة لم يستطع الالتزام بالاستراتيجيات التقليدية، وتحدث بصورة صريحة عن الجحود الذي يواجهه الأردن والتشنيعات التي تحدثت عن ممر بري لتزويد (إسرائيل) باحتياجاتها من المواد الغذائية، والمغالطة الجوهرية بخصوص حركة الشاحنات على الجسور، الشاحنات التي تحمل البضائع وفقاً لترتيبات مستقرة لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، وهي ترتيبات تجارية بحتة، لا تمثل موقفاً أو توجهاً سياسياً.
مع ذلك، فأية خيارات ربما طرحت أمام الأردن بخصوص وقف تدفق البضائع إلى الجانب (الإسرائيلي) كانت محلاً للاستبعاد لأنها تعني وبصورة آلية وقف تدفق البضائع والإمدادات المختلفة للأشقاء في الضفة الغربية، ولا يقدم من يتقدمون بهذه الاقتراحات أو الأفكار أي بديل بالطبع، والمشكلة الأساسية أن البدائل كثيراً ما تكون منعدمة، أو باهظة التكلفة بصورة لا يمكن تحملها، والمنظرون أنفسهم لا يستطيعون أن يتحملوها وسيتخذونها وسيلة لمهاجمة وانتقاد القرار المتخذ أياً يكن، فالغاية الأساسية هي التشكيك.
هل يمكن تخيل وقف التزويد والإمداد من الأردن للضفة الغربية في هذه المرحلة؟ من سيبرر للفلسطينيين في حال حدثت أسوأ الاحتمالات أننا تركناهم وحدهم، الأردن لا يستطيع أن يتعامل مع الفلسطينيين بهذه الطريقة، وكل وجع في بيت فلسطيني له صداه في بيت أردني، على وجهي العموم والتخصيص.
أعتقد أن خروج رئيس الوزراء أتى لأن التشكيك يشوش على الدولة الأردنية في هذه المرحلة، وبينما تتعلق الأنظار بالأحداث المؤسفة والمؤلمة في قطاع غزة، تتفاعل المقدمات في الضفة الغربية قبل شهر رمضان الكريم، واحتمال وجود هبة شعبية فلسطينية على قدر كبير من الاحتكاك مع المستوطنين.
مئات آلاف الأسر الفلسطينية في الضفة تعيش معاناة صامتة أمام التضييق المالي على السلطة الوطنية، وتوقف العمالة الفلسطينية في المناطق (الإسرائيلية)، وبطبيعة الحال، فإن الحديث عن هذه العمالة من فوق أريكة مريحة يعتبر تطاولاً وتجريحاً يفتقر للحس الأخلاقي، فالوضع في الضفة كما في غزة، والضفة من حوارة كانت المرشحة لتفجير الأوضاع قبل السابع من أكتوبر الماضي.
الاحتمالات معقدة، والأردن يدرس اجراءات ميدانية كثيرة، ولذلك فالتشويش غير مستحب، ويضر بالأردن وفلسطين، وهو الأمر غير المقبول، وإذا كان البعض يعتقد أن الأيديولوجيا تجعله يفكر في كيانات (خيالية) يخدمها في مخيلته، فإن كل ما نمتكله هو كيانات قائمة مثلت نضال الشعبين على امتداد عقود طويلة من الزمن.
هل المستهدف هو الوقيعة بين الأردن وفلسطين؟ هذه رهانات أثبت التاريخ فشلها، ولنلتقط مثلاً غير شائع كثيراً، حيث سعى الفلسطينيون إلى تجاوز واقع الإنقسام الذي أوصلهم إلى الاقتتال وأشعل حرب المخيمات في لبنان سنة 1984، في ذلك الوقت كانت الحاجة ملحةً لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، وكانت توجد تخوفات من انعقاده في عمان تحديداً، ولكنها بقيت المكان الوحيد المتاح والمؤهل ليجمع الشمل الفلسطيني في أصعب الظروف، وبالفعل، كان المجلس في عمان، ومنحت الدولة الأردنية المجال كاملاً للأشقاء الفلسطينيين من أجل بناء التفاهمات المطلوبة.
ينقل شفيق الحوت، أن أحد المشاركين علق بعمق وعفوية، على الأقل في الأردن يمكن أن يجد الفلسطيني قبراً، وتمضي الأيام ليجد جورج حبش الذي استنكف عن حضور أعمال المجلس الوطني في تلك السنة قبراً في عمان، ويدخله في مظاهر الاحترام اللائقة، هذه خصوصة العلاقة التي لا يفهمها كثيرون، ولا يستوعبونها داخل ثقافتهم.
هل توجد جهة داخل الأردن أكثر قرباً من حركة حماس من الدولة الأردنية نفسها؟ من يعتقد أن حماس تقيم له وزناً ويمكن أن تتخذ معه موقفاً ضد الأردن فهو واهم بصورة مزرية، فالحركة تقدر للأردن علاقات تاريخية مرت بالعديد من الفصول، ويبدو أن بعض هذه الجهات التي تبحث عن الشعبية تحاول تجاوز صدمتها من التسويات التي تجريها تحالفاتها التاريخية لتجد التلاعب بالمشاعر بضاعة متوفرة خاصة بعد أن عجزت أدواتها الفكرية والنقدية عن استيعاب تحولات المنطقة، والمخاطر المحدقة بها.
أي مصلحة يمكن أن تتحقق من التشكيك في المواقف الأردنية وفي الجهود الكبيرة التي بذلت منذ بداية العدوان الوحشي على قطاع غزة؟ لا يمكن الجزم بوجود مصلحة لجهة معينة، ولكن التشكيك يضرب مصلحة الفلسطينيين، لأن الأردن يعمل على مساندة الفلسطينيين في الوصول برسالتهم إلى العالم، ولأنه الجهة التي بذلت أوسع الجهود في الضفة الغربية الغائبة عن حسابات كثيرة تفضل أن تبقى تحت الضوء الساطع للظهور، وتنسحب من مساحات الحقيقة لأنها صعبة ومربكة، ولأن الأردن كان الجهة التي حلقت في سماء غزة وواصلت العمل على الأرض بإمكانياتها المتوفرة، والهولنديون والبريطانيون شاركوا في الإنزالات الجوية الأردنية، وفي واحدة منها كان الملك شخصياً على متن الطائرة.
يوجد عبء أخلاقي نقدر أنه يقع على البعض جراء هول المجزرة الإسرائيلية الجارية في غزة، ولكن البحث عن الأردن ومواقفه ليصبح المجال الحيوي لتفريغ ذلك العبء أمر غير مقبول، وصراحةً لا يمكن قبول استيراد هذا العبء في هذه المرحلة لأن (اللي فينا مكفينا).
لن يقدم الأردن كشفاً بدعمه لفلسطين وأهلها، فهذه مسألة لا تخضع للحسابات التقليدية، ولا يمكن أن نضعها في سجلات ولا نقوم بأرشفتها من الأساس، لأن الأردن هو الرئة للقلب الفلسطيني بالمعنى الفعلي لا المجازي وحده، ومن يضغطون على الأردن بأوراق مراوغة ومكذوبة يضغطون على فلسطين قبل ذلك، والشاحنة التي نتركها لترتيبات بعض التجار الذين أوصلت لهم الدولة رسالتها (استحوا)، تمر مقابلها شاحنات للفلسطينيين، والإصرار الأردني هو على توفير مخزون مناسب من الاحتياجات الأساسية لدى الفلسطينيين، والأردن يتابع ذلك أكثر مما يتابع التخرصات والتقولات الفارغة.
أما التهوين من الجهود الأردنية والتشكيك في نواياها، فهذه فرية أخرى، لا يهمنا بخصوصها سوى رأي أشقائنا في فلسطين، ولن نطلبه ولن نسمعه، إلا بعد أن تهدأ الأوضاع لأن الحديث سيكون عن تجربة فلسطينية قابلة للاستدامة لأننا نؤمن أن أبناء فلسطين ليسوا أقل شأناً من غيرهم، ولأن يستحقون العيش بحرية وكرامة مثل غيرهم من شعوب العالم.