«توبيخ» السفراء أو ما يُوصف استدعاء السفير لـ«التشاوُر», فضلاً عن «خفض» التمثيل وإعلان السفير شخصاً غير مرغوب فيه, أي «طرد» سفير دولة ما, وصولاً إلى «قطع» العلاقات الدبلوماسية, تعني تلك الخطوات المُتدحرجة في العُرف الدبلوماسي الدولي, توتّراً وتدهوراً في علاقات أي بلدين في العالم. وإذ يعنينا في هذا التوصيف دعوة الخارجية الروسية سفيرة دولة العدو الصهيوني في موسكو/سيمونا هالبيرين «لـ«التشاور/التوبيخ», فإن سبب هذه الدعوة يدعو للتوقّف عنده والإضاءة عليه, ليس فقط في «الغضب» الذي عكسه بيان الخارجية الروسية الذي قال انه: بسبب «تصريحات علنية غير مقبولة للسفيرة الإسرائيلية، تُشوّه توجهات السياسة الخارجية الروسية والحقائق التاريخية», بل خصوصاً في ما قالته السفيرة والنبرة الإستعلائية المُتغطرسة المحمولة على استفزاز وخروج على اللياقات والتقاليد الدبلوماسية وتحدٍ لسياسات الدولة الروسية.
اللافت هنا أن أقوال السفيرة الصهيونية جاءت عبر ومن خلال, «مُقابلة» مع صحيفة «روسية» واسعة التأثير والتوزيع والمُقرّبة من الكرملين اسمها «كوميرسانت», تبيّن فيها أن السفيرة هذه, هي «مواطنة» سوفياتية.. وُلدت في مدينة «ريغا» عاصمة جمهورية «لاتفيا» السوفياتية, قبل انهيار الاتحاد السوفياتي, (وفق ما ترجمَ المقابلة الصديق د. زياد الزبيدي).
أي أنها «هاجرت» (قالت بوقاحة أنها «عادتْ» لإسرائيل, في موجة الهجرة الضخمة ليهود وغير يهود جمهوريات الاتحاد السوفياتي, إلى الكيان العنصري/الاستيطاني في عهد نبيّ البريسترويكا المشبوه/غورباتشوف, تسعينيات القرن الماضي). وبصرف النظر عما انطوت عليه المقابلة المُطولة مع السفيرة الصهيونية, فإن ما أثار حفيظة الدوائر الروسية, هي الإنتقادات اللاذعة التي وجّهتها للسياسة الروسية تجاه القضية الفلسطينية, خصوصاً في استقبالها وفداً من حركة حماس «مباشرة» بعد معركة طٍوفان الأقصى, ومرة أخرى لاحقة.
لكن الأكثر استفزازاً/إيلاماً لموسكو كان «إنكار السفيرة تضحيات الشعوب السوفياتية في الحرب العالمية الثانية, وإعتبار ان ما وصفته زوراً «الشعب اليهودي» هو الذي دفع ثمن أبشع جريمة في التاريخ. اجابت السفيرة على سؤال على النحو التالي: (يتزامن تاريخ تكريم كسر الحصار المفروض على لينينغراد في 27 يناير مع اليوم العالمي لإحياء ذكرى المحرقة. تكريماً لهذا التاريخ–أضافت السفيرة الصهيونية–تُقام في روسيا نشاطات مهمة للغاية، «تُنظمها الجالية اليهودية» بالتعاون مع حكومة موسكو, ومكتب المفوض الرئاسي لقوميات الاتحاد الروسي. واستطردت قائلة في انتقاد واضح.. لـ«سوء الحظ،» فإن اليوم الدولي لإحياء ذكرى المحرقة «لا يُعد يوماً رسمياً في تقويم الدولة للاتحاد الروسي». ولم تلبث أن صعّدتْ من لهجتها على نحو أكثر استفزازاً بالقول: (أنا لا أفهم حقاً لماذا يُقلّل وزير الخارجية سيرغي لافروف من أهمية هذا الحدث الوحشي/تقصِد..المحرقة. نعم، تكبدت «العديد» من الدول خسائر فادحة، ودفع الشعب الروسي ثمن الانتصار على النازية بملايين وملايين الأرواح. ونحن «نتذكرّ» هذا. ولكن ــ هنا تتنكر تماماً لتضحيات الشعوب السوفياتية والجيش الأحمر أيضاً–«لم يحدث من قبل في التاريخ أن شهِد العالم, مثل هذه الإبادة الجماعية والمنهجية للبشر على أُسس عِرقية قط». «فقط الشعب اليهودي» اختبرَ هذا. «سأكرر هذا بلا كلل».
ناهيك عن وصفها المواطنين الروس من أتباع الديانة اليهودية بأنهم «جالية يهودية/إسرائيلية» ولا أعرف ان كان هذا الوصف كان موضع إنتقاد أو توبيخ من قبل المسؤول الروسي الذي استقبلها أول أمس في مبنى الخارجية الروسية في موسكو. إذ قالت حرفيا: (... يعيش في إسرائيل حوالي مليون ناطق باللغة الروسية. وفي روسيا «توجد جالية يهودية كبيرة».. مئات الآلاف من الناس. هؤلاء الأشخاص هم بمثابة جسر بين بلدينا، ويوفرون الروابط العلمية والثقافية والاقتصادية).
لم تتوقف هذه «الدبلوماسية» الصهيونية, عن إنتقاد بل «تقريع» مواقف وسياسات روسيا, على نحو فظ ّوإستفزازي, بل يندرج في باب التدخّل المُباشر في الشؤون الداخلية لدولة عظمى مثل روسيا. تاليا مُجرد «أمثلة» على ما قالته للصحيفة الروسية/كوميرسانت. **(أعلنت القيادة الروسية، بما في ذلك على المستوى الرئاسي، مراراً وتكراراً أن أمن إسرائيل هو مصلحة استراتيجية لروسيا. ولـ"سوء الحظ، بعد 7 أكتوبر، رأينا أن هذا المبدأ لم يعد ذا صلة"). ** مثال آخر (لديكم قائمة بالمنظمات الإرهابية المحظورة في روسيا. وفيه أيضاً جماعة الاخوان المسلمين. لكن حماس هي الفرع الفلسطيني لجماعة الاخوان المسلمين. لماذا ليست هي في هذه القائمة؟. فلماذا لا تتخذ روسيا موقفاً ليس فقط ضد الإرهاب، بل أيضاً ضد تكرار أحداث السابع من أكتوبر؟).
**مثال ثالث وأخير: (روسيا، التي عانت–اضافت السفيرة الصهيونية–هي نفسها من الهجمات الإرهابية، «لا» تدعم إسرائيل في حربها ضد الإرهاب. بل على العكس من ذلك، فهي «تتضامن» مع جمهورية جنوب افريقيا، التي «رفعت دعوى سخيفة» ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بارتكاب جرائم إبادة جماعية. و"يُسعدني» أن المحكمة لم تؤيد هذا الاتهام، بل أمرت إسرائيل فقط بـ «الامتناع عن الإبادة الجماعية").
ثمَّة كثير من الثرثرة والإستعلاء والغطرسة التي تغرِف من معين «تفوق» اليهود وعبقريتهم, بوصفهم «شعب الله المختار».. لكن «المساحة» لا تتسع.