منذ نشأته، دَأبَ الكيان على التّرويج لثلاث سَرديّات، من بين سرديات أخرى أصبحت مكشوفة: أنّه أولاً الديمقراطية الوحيدة في المنطقة؛ وأنه ثانياً الجانحُ للأمن والسِّلم، وأنه ثالثاً الاحتلالُ الأكثر رأفةً والأقل دموية.
وكنّا نحن منذ البداية نعرف أنّ هذه السرديات الثلاث هي أباطيل؛ فالكيان بالنسبة لنا كان دوماً ذئباً في ثوبِ حَمَل، وحُكْمُنا عليه كان من خلال أفعاله لا أقواله أو أقوال المؤسسات الإعلامية الغربية، أو الأبواق الأخرى الكثيرة التي تُروّج له، والتي كانت، وما زالت، سطوته عليها كبيرة.
وعبر السنوات المُتعاقبة، بغرورٍ وصَلَفٍ وحماقة، بدأ هو نفسه بإبطال مزاعمه؛ على مبدأ يُخربون بيوتهم بأيديهم، إلى أن قام اليوم، ومن خلال عدوانه الهمجي على غزة، بحرق جميع أوراقه.
بالنسبة للسّرديّة، أو بالأحرى الأكذوبة، الأولى، المُتعلّقة بأنه الديمقراطية الأوحد؛ فأصبح العالم الآن يعرف تمام المعرفة، إلا من سياسيٍّ غربيٍ مُنحرفٍ أو مُشتَرى أو إعلامٍ غربي مُدَجَّن، أنها دولة تمييز عنصري بامتياز (أبرثايد وأسوأ)، وأن لا علاقة لها بالديمقراطية.
لا بل إنّ محاولة رئيس وزراء الكيان المُتخم بِتُهم الرشاوى والفساد، قبل الهجمة الهمجية على غزة، سحب صلاحيات الجهات القانونية لصالحه هو وزمرته، لأكبر دليل على تقويض الديمقراطية.
أما بالنسبة للثانية فبان تدليس الكيان بمجرّد أن استجابت العديد من الدول العربية لدعوات السلام ووقعت اتفاقيات معه، فبمجرد توقيعها لم يَألُ جهداً في تقويضها، كما حصل بالنسبة لاتفاقية أوسلو مع الجانب الفلسطيني، أو التنصل من العديد من الاستحقاقات المترتبة عليه من عدة اتفاقيات وقّعها مع دول عربية مجاورة وغير مجاورة.
وعدم احترام اتفاقيات السلام والتنصل من الاستحقاقات المترتبة لأكبر دليل على رفض الكيان مبدأ السلام رفضاً قاطعاً والسعي لتكريس الاحتلال والتّوسّع في أراضي الغير، غطرسةً وعنجهيةً وانحيازاً للإثم والعدوان.
أما السرديّة الثالثة، فمنذ أمَد بان الوجه القبيح للكيان، الذي قام على مذابح دير ياسين وقبّية والطنطورة وغيرها، وأصبح أكثر جلاءً ووضوحاً من خلال هجومه الهمجي على غزة، والذي يستهدف فيه قتل الأطفال والنساء والرجال عن قصد وتدمير البنى التحتية المجتمعية المدنية التي لا علاقه لها بأي أبعاد عسكرية، أمام مرأى العالم ومسمعه دون رأفة أو رحمة أو ذرة إنسانية، لا بل بوحشية تامة تفوق ما قامت به أشرس القوى الدموية في الحقب التاريخية المُظلمة.
شعوب العالم، بمن فيها شعوب الدول المساندة للكيان، كلّها في صدمة بسبب الإجرام غير المسبوق الذي يُقتَرف على مدار الساعة في غزة وفي الضفة، وحتى في دول عربية مجاورة.
سؤالٌ مهم لا بد من طرحه هنا: ماذا تبقى للكيان، بعد أن تخلّى عن الديمقراطية والسلام وتبنى مبدأ البطش والإجرام، من سرديات يدافع بها عن نفسه أو يحاول من خلالها تبرير وجوده؟
سؤال لا بد من طرحه لنفهم نحن ويفهم العالم دوافع الكيان ومخططاته ومسوّغاته وماذا يريد بالضبط، وكيف نتعامل ويتعامل العالم معه؟.