بدأت رحلتي بالاختصاص في ثمانينات القرن الماضي بقسم النسائية والتوليد بمستشفى الجامعة الأردنية بعد سنوات دراسية لشهادة الطب الأولى بجامعة القاهرة وإنهاء فترة الامتياز وخدمة العلم، فحضرت لعالم مجهول المعالم والنظام، بل غريب علي في كل ركن من أركانه، فالبداية بمقابلة سريعة مع رئيس القسم، صاحب الابتسامة وعبارات التشجيع، الذي أعطاني ملخصا عن محطات سنوات الاختصاص وشحنة معنوية كنت بأمس الحاجة اليها، لتبدأ المرحلة الثانية بمقابلة أساتذة القسم أصحاب الفضل بالتعليم والتدريب؛ توقفت أمام شموخ وعظمة أحدهم؛ الاستاذ الدكت?ر عدنان حسن أطال الله بعمره وعطائه، الذي ساهم بتحديد بمسح واقعي لتضاريس مستقبلي، صاحب الوقار والجدية، شاحن الهمم ومفصل محترف لامتصاص هاجس الخوف والرهبة، وقفت أمامه بين حائر ومبهور، غير مصدق للحظات التي أحاول تجسيد ذكرياتها اليوم بما تستحق؛ قرأت بعينه الصدق وتوقف عند دمعة الخوف التي تجمدت بحرارة التفاؤل.
تدرجت بالتتلمذ على يديه وزملائي الآخرين في برنامج الإقامة، فاكتسبنا رصيداً من المعرفة والمهارات الجراحية وفنون التوليد والتصرف في الحالات الصعبة، والتي شكلت حتى الساعة طريقنا المرصوف بالثقة التي أوصلتنا للمجد في يومنا الحاضر؛ لم يعاملنا بعصبية أو فوقية، بل المرشد الناصح الذي تعهد بصقل شخصية كل منا بما يناسبها؛ كان الملجأ لكل منا في صعابه ومشاكله، الأب الحنون الذي يمسح دموع القهر والألم بإنسانيته، يعيد الثقة ويصحح المسيرة، يخبرنا دائما أن المهنة مليئة بالتحديات؛ من يعمل سيخطئ والذكي لا يكرر الخطأ فيتعلم من ?جاربه.
تعلمت منه قدرته على تسخير علمه بما ينفع فيه مرضاه، فلم يقايض على حياة مريضة بصفقات أو تكريما لوسيط، فقد علمنا أن المتابعة ومواصلة التحصيل العلمي، يمثلان العامود الفقري لمستقبل الطبيب الذي يبحث عن التميز بإختصاصه، فقد تعلمت منه شخصيا أبجديات الفنون الجراحية مقرونة بمنطقيات فنون التصرف في الحالات الصعبة التي تحتاج للهدوء والثقة وطلب النجدة والمساعدة بالتوقيت المناسب. تعلمت منه حرصه على تشخيص المريضة وعلاجها حتى الشفاء، والحكمة باستخدام ميزان التقييم؛ الشدة عند اللزوم والرأفة جدار المغفرة، جعلني أعشق المهنة و?كتبها شعراً بمهارات العمل، فهو الجديُّ المحترف والسند القوي، صاحب لمسات سحرية ما زالت ارتداداتها الإيجابية على شواطئ المهنة والعمل.
اختار الهجرة الداخلية للعمل بالقطاع الخاص لظروفه المقدرة؛ خسارة كبيرة للقطاع الأكاديمي ومكسب أكبر للقطاع الخاص، فكنا على تواصل دائم، نلجأ اليه حتى الساعة للاستشارة بالحالات التي تستدعي العصف الذهني لأصحاب الاختصاص، وهو النشيط المتابع لأحدث التقنيات العلاجية والجديد من المعرفة والتطور، يبحث وينشر، يشارك بالمؤتمرات العلمية الداخلية والخارجية بنشاط الشباب الثلاثيني، وقد تشرفت بمرافقته بالعديد من المؤتمرات العلمية الخارجيىة والداخلية، حيث كانت الأمسية العلمية في الاسبوع الماضي عن أحدث المستجدات لعلاج الورم الس?طاني للمبيضين هي اللقاء الأحدث، فكان الأميز بالاستماع والمناقشة؛ محاضرة مطولة تخللها ولادة فكرة هذه المقالة عن القامة الوطنية الكبيرة التي نعتز فيها ومنجزاتها، لأنني أريد توثيقها بحياته اعترافا بفضله ليقرأها ويهاتفني؛ القيمة للحاضر أغلى من الماضي والمستقبل.
تعانقنا عناقا أبويا ذات محبة وشوق، واستعرضنا على عجل ذكريات لن تدخل صفحات النسيان؛ مواقف التلميذ المخلص (أنا) والمعلم الكبير (الدكتور عدنان حسن)، الذي كان بوصلتي بالاختصاص الفرعي عندما قررت سلوك الطريق الأكاديمي بالجامعة الأردنية بتوفيق من الله حتى وصلت لدرجة الأستاذية قبل سنوات. جئته بائسا حزينا بشكوى تنطق فيها تجاعيد الوجه والعيون بسبب محدودية العمليات التي أجريتها بمراحل الإقامة مقارنة مع الآخرين، ليخبرني أن المهارة المكتسبة من عملية واحدة حسب الأصول تتجاوز الألف السابقة بلغة البلاغة، لتبرهن الأيام صواب?حكمته التي أنقلها لطلابي اليوم على لسانه.
أستاذنا الفاضل: جميع خبرات وذكريات طلابك في مراحل التعليم باختلافها تتمحور حولك أنت كمعلم، فأنت الذكرى الباقية معهم بصفاتك وسلوكياتك وأخلاقك، فالمناهج والمواد واكتساب المهارات والخبرات العلاجية بشتى أنواعها لا تمثل لهم ذكريات سعيدة أو مؤثرة بقدر مواقفك معهم، ففي هذه المرحلة كنت أنت القدوة، وبالفعل أنت وحدك القادر على تحديد طبيعة هذه الذكرى في عقول أبنائك من الطلاب بسلبيتها إيجابيتها لأنها نقطة الانطلاق لعالم العمل والانخراط بدهاليز المهنة؛ فالاستماع لشكوى المريضة واحترام خصوصيتها، تميهدا لرسم خارطة العلاج ?الشفاء، واحداً من فنون المهنة التي سجلت فيها العلامة الكاملة.
أستاذي الفاضل: زرعت في قلب عائلتي حديقة ورد عندما وظفت خبراتك الجراحية بولادة إبني «موسى»، فقد بشرتني وأعدت لي الحياة وعائلتي، بعد أن صرفت رصيدي بالحساب والتفكير لحساسية الحالة الطبية التي تستدعي مهاراتك، وأعلم أنني مدين لك ولن أوفيك، ولكنني أسجل لذاتي أنني أنصف من يعملون بحاضرهم، ليعرفوا المكانة التي يشغلونها وحجم التقدير، فالاعتراف بالمناقب لأصحاب الفضل بحضورهم، وسام أعظم من تركه أمانة متأخرة بضمير التاريخ وللحديث بقية.