مُجتمعُنا، ربما أكثر من غيره، مليء بالمُفارقات، الصّغرى والكبرى. وهي، من بين عوامل أخرى، تشدنا للخلف أو تُبقينا نراوح مكاننا.
من المُفارقات الكبرى أننا أنجحُ في أدائنا على المستوى الفردي أو الجُزئي من أدائنا على المستوى الجَمعي أو الكُلّي.
عندنا وفرة في الأفراد المميّزين؛ ونظامانا التربوي والمجتمعي، على علاّتهما، يفرزان العديد ممن يتمتعون بقدرات لافتة.
عدة أمثلة تحضر للذهن:
طلبتنا من خريجي المدارس والجامعات يلتحقون بالدراسة في أعرق الجامعات العالمية، فيبدعون. العديد من حملة الدكتوراة عندنا يستقطبون كمدرسين وباحثين وقياديين في الجامعات والمؤسسات العربية والدولية فيكون أداؤهم مُشرّفاً. ونفس الكلام ينطبق على صحافيّينا وإعلاميّينا ورياضيّينا وأطبائنا ومهندسينا وصيادلتنا وحرفيّينا وغيرهم.
ولا ننسى أنّ العديد من الدول الشقيقة التي نهضت، ساهم في نهضتها، وعلى مدى عقود، العديد من أفراد مجتمعنا.
فما بالنا لا ننهض عموماً وعلى النحو المرجو؟! نقول «عموماً» و «على النحو المرجو» لأنّ عندنا نجاحات واختراقات وإبداعات وتميز لافت، لا شك، لكن على المستوى الفردي أو الجزئي، وليس على المستوى الجمعي أو الكلي. والأخير هو غايتنا الأسمى.
وهذه مفارقة بحاجة إلى دارسة معمقة.
نُخمّن أنّ منها أننا لا نُجيد عمل الفريق، لأنّ الأداء الفردي شيء والجماعي شيء آخر، يَحكُم كلّ منهما قواعد وأصول مختلفة.
قبل سنوات حضرتُ مؤتمراً تربوياً في أوروبا وكان التركيز فيه على المهارات المتوقعة من خريجي الجامعات الأوروبية، وكان على رأس تلك المهارات «عمل الفريق.»
وهذا أمر ينسجم تماماً مع المطلوب اليوم في عالم المؤسسات والأعمال، والتي يقوم العمل فيها في معظم أبعاده على أداء الفريق، وليس أداء الفرد على أهميته.
في سياقنا التربوي لا تكاد مهارة عمل الفريق تُذكر. ومن هنا يأتي أداؤنا في المهام التي تتطلب تنسيقاً عالياً وتعاوناً بين عدة أفراد، في لجان أو فِرَق أو مجالس أو هيئات دون مستوى الطموح.
ومنها، أي من الأسباب، أنّنا لم نصل إلى مرحلة بعد نُحسن فيها اختيار الأفراد للمهام، من أدناها إلى أعلاها؛ ولا يكون ذلك إلاّ إذا حكّمنا مبادئ القدرة والكفاءة وسِجِل الإنجاز.
مُؤخّراً انتشر مقطع فيديو للأستاذ الجامعي السنغافوري «كيشور محبوباني» يتحدث فيه عن ثلاثة عوامل كانت وراء «سر» نهضة سنغافورة؛ واحد منها كان، ببساطة، اختيار الأشخاص للمهام بناء على مبدأ المؤهلات والكفاءة.
ومنها أن تميّز الأداء على المستوى الجمعي أو الكلي ربما لم يُدرج بَعد ضمن الأولويات ولم تتم صياغته على شكل هدف قابل للتطبيق والقياس. لا شك بأنه يظهر في خطابنا بين الفينة والأخرى، ويتم النصّ عليه في بعض الوثائق الرسمية المهمة؛ وهذا أمر جيد.
لكن الكلام العام شيء والأولوية والهدف شيء آخر.
ومن هنا تجدنا، في غالب الأحيان، نكاد نقصر التميز أو الإبداع على المستوى الفردي؛ وهذا قد يفسّر ما ذُكر في بداية المقال من أننا نتميّز على هذا المستوى أكثر من المستوى الجماعي.
وبَعد، فلا بد من معالجة هذه المفارقة، وغيرها، حتى يتقدم مجتمعنا بسرعة وبقوة ونُحقق ما نحلم به منذ أمد.