ما هو السر الذي امتلكه الشهيد وصفي التل؟ لتتحول لحظة استشهاده إلى لحظة ولادة حقيقية للرجل، ولحظة حضور دائم له تخيب آمال الذين أرادوا تغييبه بالموت، فجعلوا من موته حياة لامتناهية في وجدان شعبه ستأتي اكلها ذات يوم.
بعكس ما ألفه الناس بأن يبدأ موت عزيز عليهم كبيرا ثم يصغر شيئا فشيئا حتى يتلاشى، فقد بدأ موت وصفي كبيرا فاجعا مؤلما، لكنه ظل يكبر عاما بعد عام، وظل الاحساس بفقد وصفي حاضرا في وجدان الأردنيين، يشتد حضوره كلما الم بهم خطب، فيتحسرون على وصفي ويزيد تعلقهم به.
هل المال هو السر وراء ذلك كله؟ والجواب هو بالتأكيد (لا) فقد عاش وصفي فقيراً واستشهد مديونا، وفوق ذلك فإن المال لا يصنع حبا وتعلقا بصاحبه، لكنه يصنع نفاقا زائلا، لكن الاحساس بالفقراء ومحاولة إخراجهم من فقرهم يصنع حبلا متينا بين الفقراء ومن يسعى للحفاظ على كرامتهم، والخروج بهم من ضنك الفقر، كما كان يفعل وصفي، فهل هذا سر وصفي؟
والجواب قد يكون ذلك، لكن المحير أن الكثيرين من غير الفقراء يحبون وصفي ويبكون عليه، فهل السر في ذلك أن وصفي كان حريصا على رعاية رأس المال الوطني وتنميته من خلال المشروعات التنموية العملاقة التي كان يطلقها، مثلما كان يحمي رأس المال الوطني من الرشوة، في نفس الوقت الذي كان يحول فيه بين رأس المال والتسلل إلى مفاصل القرار، لان هذا التسلل يشكل خطراً حقيقياً على الدولة واستقرارها وعلاقتها بمواطنيها، تماما مثلما كان يحول بين الشللية والتحكم بالتعيينات أو العطاءات أو أي شأن من شؤون الدولة، فقد كان معياره الكفاءة وسي?دة القانون، التي تطبق على الجميع.
ام ان سر وصفي هو قربه من الناس والاستماع إليهم وإنصاف المظلومين منهم؟ يذهبون إليه في بيته فيجدونه مفتوحا على مصراعيه، فيحتسون الشاي مع راعي البيت دون أن يشعروا أن بينهم وبينه حاجزا، فقد نجح وصفي وهو في كل المواقع بأن يظل قريبا من الناس معبرا عنهم، يصلون إليه سواء كان في منزله أو مكتبه وهو في السلطة، فلم يكن للسكرتاريا عند وصفي ذلك الهيلمان، وكان عملها يقتصر على التنظيم الذي لا يحابي أحدا.
أم سر وصفي هو تجسيده العملي لتعلق الأمة بفلسطين، التي كانت محور حياة وصفي الذي قاتل فوق ترابها في الجليل، ودافع عنها وعن أهلها في كل المحافل، ومن فوق كل المنابر، وصار هو المسؤول العربي الوحيد الذي يملك مشروعا متكاملا قابلا للتطبيق لتحرير فلسطين، ولعله الذي قتل وصفي.. إن كل ما تقدم بعض سر وصفي وليس كله.