لم يعد الأمر خافياً على أحد، فقد ارتفع مؤشر تكاليف المعيشة، او ما يسميه الاقتصاديون، التضخم، قد أصبح ظاهرة عالمية، لا تنجو منه أي دولة في العالم، ومنذ انفجار أزمة كورونا، والحرب على اوكرانيا، بات واضحاً أن نظم التزويد العالمي لم تعد كما نعرفها، بل أضحت متقطعة، وصار الطلب العادي والطلب التحوطي يفوقان بكثير قدرة المنتجين والبائعين على انتاج ما يكفي، ولذلك، صار هنالك فائض في الطلب.
وإذا أردت أن تشعل الأسعار اكثر، فقم بتشويش نظم تزويد السلع الرئيسية والتي إن ارتفع سعرها تجر معها ارتفاعات كثيرة في أسعار السلع والخدمات الاخرى، ومنها على سبيل المثال النفط الذي ارتفع سعره يوم السبت الموافق الرابع من حزيران الى اكثر من (120) دولاراً للبرميل، علماً انه كان في بداية هذا العام 2022 (80) دولاراً، اي انه ارتفع بنسبة 33%، وسعر القمح ارتفع من (300) دولار للطن الى حوالي (480) دولاراً للطن، او بما نسبته (60%) تقريباً، وقس على ذلك اسعار الشعير والذرة، والارز، وزيت الطبخ، وغيره.
ونحن في الاردن نستورد ما قدره (1.1) مليون طن من القمح كل عام، واذا استمر سعر القمح على ما هو عليه، فسوف تبلغ فاتورة استيراد القمح حوالي خمسمئة مليون دولار مقابل (300) مليون في العام الماضي، والحكومة تعض على اصابعها، وتستوعب الفرق، ولا ترفع السعر.
استوعبت الحكومة الارتفاع في أسعار النفط خلال شهري نيسان وآيار، ثم عادت لرفعها بنسبة مرتفعة عن باقي الأشهر في مطلع شهر حزيران مع تركيز خاص على البنزين.
وقد ظهرت العديد من الكتابات والتعليقات التي تقول إن سعر البنزين في الأردن هو الأعلى في العالم. ولربما يكون الأردن واحدة من أعلى الأسعار للبنزين، ولكن وضع ضريبة على البنزين له مبرراته، فليس كل ما ينفق على هذه المادة مبررا في ظل سعره العالي، وليس هنالك أي دلالات على أن رفع سعر البنزين يقلل من حجم الشراء من هذه المادة، إذن فالمستهلك ليس حساساً تجاه الأسعار.
والأمر الثاني أن البعض يقول ان الأردن يستورد من العراق نفطاً مدعوماً، وهذا صحيح، ولكن مجموع ما يستورده من العراق لا يغطي أكثر من سبعة الى ثمانية في المئة من الاستهلاك اليومي، ومعدل ما يصلنا من العراق يومياً لا يزيد عن عشرة آلاف برميل من النفط الخام، والباقي يستورد وفق الأسعار العالمية، بينما يستورد الأردن حوالي (114) الف برميل كل يوم.
وبالطبع، ارتفعت أسعار الشحن والتأمين، ولذلك زاد حجم الاستيراد الأردني خلال هذا العام بسرعة اكثر من التصدير رغم تحسن الطلب العالمي على مادتي الفوسفات والبوتاس والبرومين والمغنيسيوم.
ولكن الشيء الذي يجب ان ننتبه اليه أن ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء وكلف النقل والطعام صارت تشكل نسباً أعلى من انفاق الأسر الأردنية، وبمعنى آخر، فإن المواطن الأردني صار ينفق أكثر من (60%) من دخله على الطعام والنقل والكهرباء على حساب انفاقه أو عدم تسديده للايجارات، أو أقساط المنازل، أو الملابس، أو الأثاث، وسلع الرفاه، والتعليم والصحة، ولذلك فإن ارتفاع أسعار الأساسيات، وثبات أسعار باقي السلع أبقى معدل التضخم عام (2021) أقل من (3.0%) سنوياً، ومن المتوقع أن يصل الى (4.0%) في نهاية هذا العام وفق تنبؤات البنك وال?ندوق الدوليين.
ولكن اكتواء أبناء الشعب بارتفاع الأسعار ليس إلا مشكلة بسيطة إذا ما قارناها بهبوط قدرتهم الشرائية بسبب ثبات معدلات النمو في حدود 2.2 – 2.5%، وفي ضوء ارتفاع نسبة البطالة بين صفوف الشباب من الذكور وأعلى بين الاناث، ولذلك، صار دخل الأسر أقل، والأعباء عليه أكثر.
فما هو المخرج إذن؟ إن قدرتنا على استخدام السياستين المالية والنقدية لكبح جماح الأسعار محددة بضرورات الحفاظ على الاستقرار النقدي وضبط سلوك الموازنة العامة حتى لا تكبر المديونية أكثر، ولن تجد أي اقتصادي واحد يقول لك أن تضحي بالاستقرار النقدي مقابل السعي لخفض معدل الأسعار.
وإذا كنا بحاجة الى أمر أكثر الحاحاً في الوقت الحاضر فهو تخفيف نسبة البطالة عن طريق زيادة الاستثمار، وتحسين تطلعات الناس نحو المستقبل، وجعلهم أكثر تفاؤلاً به، ولعل أخطر ما تواجهه الأمم والشعوب في ظل الأزمات الاقتصادية هو فقدان الناس للأمل بأن بالأمكان التغلب على المشاكل، ولذلك يصبح فقدان الأمل أو التشاؤم عامِلَيْن فَعّالَيْنِ في تثبيط الهمم، والجأر بالشكوى، وانعدام الثقة في النفس وفي المؤسسات.
والتضخم أو ارتفاع الأسعار يمكن حَصْره ضمن نسب معقولة إذا ارتفعت معدلات النمو، ويؤمن الاقتصاديون أن كلفة التخلص من البطالة أو تقليل نسبتها هو زيادة نسبة الارتفاع في الأسعار، وفي الأعوام 1976 وحتى عام 1982، كان معدل التضخم في الأردن يتراوح بين 15- 18% سنوياً، ولكن بسبب اعداد فرص العمل الوفيرة، وزيادة الدخول، كانت الشكوى من التضخم محدودة.
والأن علينا أن نتذكر أن السياسة النقدية والسياسة المالية يجب أن يتضافرا معاً لابقاء استقرار سعر الصرف ثابتاً حيال الدولار مما يمكن الاردن من استيعاب ارتفاع اسعار المستوردات خاصة من الدول التي يتراجع سعر صرف عملاتها مقابل الدولار مثل الاتحاد الاوروبي والمملكة المتحدة والصين والهند وتركيا وغيرها وهم اكبر مصادر الاستيراد بالنسبة لنا.
المطلوب الان بناء المشروعات الكبرى مثل الناقل البحري وتنفيذ البرامج الصناعية الموقعة مع كل من دولة الامارات ومصر وبناء المدينة الذكية الجديدة وتقوية السياحة، وزيادة الانتاج الزراعي لتحقيق الامن الغذائي، وتعزيز المدن اللوجستية واستكمال بناها، والاستفادة من فرصة التصنيع للبوتاس والفوسفات والاسمدة الذكية، وتطوير العقبة لتصل مداها الذي يتيحه لها بناها التحتية والمشروعات الكبرى منها والاستفادة من الموانئ والتحلية والمرافق السياحية وبناء منطقة حرة صناعية فيها وغيرها وبناء مجمعات الصناعات الغذائية وصناعة الادوية ?الرمل وغيرها من صناعات وامكانات نريد ان نوفر اموالا لا تذهب سدى بل تستثمر في بناء الثروة المنتجة القادرة على زيادة الصادرات وتحسين دخل الحكومة،وصدقوني ان ارتفاع الاسعار هو فرصة لانجاز هذه البرامج.
والان الى الاخبار السارة يجب ان نتوجه بالشكر لجلالة الملك على جهوده المتواصلة ومعه ولي عهده الشاب الأمين القوي الامير الحسين بن عبدالله، وكذلك التحول في الانجاز الحكومي خلال الاشهر الخمسة الاخيرة لجعل كل المشاريع التي ذكرتها اعلاه متاحة، وتوفيرها في طريقة الى التكامل كما ان اخوتنا في دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية ودولة الامارات وبالتعاون مع مصر والعراق سوف اما ان يجعلوا تنفيذ هذه المشروعات اكثر جدوى او انهم سيشاركون بفاعلية في التمويل.
وعلى مصارفنا وشركاتنا الحكومية ذات العلاقة ان تتماهى مع هذه المشروعات القادمة وتستفيد منها بالدخول فيها. وان انجزت هذه المشروعات في العامين القادمين فسوف يتحول الوضع الاقتصادي الاردني الى حال افضل وأكثر وعداً واشراقاً.