يقودنا الحديث في مقالي السابق عن رمضان كعلاج للبرود العاطفي الذي يعاني منه المجتمع, إلى الحديث عن مكانة العاطفة ودورها في بناء هذا المجتمع, ابتداءً من نواته الأولى ممثلة بالأسرة التي يجب أن تؤسس على المودة والرحمة, والرحمة هي أعلى درجات العطاء, أما المودة فهي أعلى درجات الوصل الإنساني, وحتى تتحقق المودة في الزواج فإنه لابد أن يملك كل من الزوجين حقه في اختيار شريكه, من هنا أكد الإسلام حق الاختيار وحريته كأساس لبناء الأسرة, وهو حق كفله الإسلام للمرأة كما كفله للرجل, ففي الحديث الذي رواه ابن عباس «أن فتاة جاءت إلى النبي, فقالت يا نبي الله إن أبي زوجني من أبن أخ له ليرفع خسيسته, وأنا له كارهة, فقال لها أجيزي ما صنع أبوكِ, فقالت لا رغبة لي فيما صنع أبي, فقال عليه الصلاة والسلام فاذهبي فانكحي من شئتِ, فقالت لا رغبة لي عما صنع أبي يارسول الله ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء", واعتماداً على هذه الواقعة وغيرها أسقط الكثير من الأئمة والفقهاء ومنهم الحنفية شرط موافقة الولي على زواج البنت, بل وأكثر من ذلك فقد منح الإسلام الفتاة حق أن تخطب لنفسها من ترغب بالزواج منه, وهو ما أقره في العصر الحديث شيخ الأزهر الشريف, واعتبر فقهاء أن ما هو خلاف ذلك إنما هو إحتكام للعادات وليس احتكاماً للشرع الحنيف, وفي هذا الإطار تورد كتب السنة «أن امرأة جاءت إلى رسول الله «ص» تعرض عليه نفسها فقالت يا رسول الله ألك بي حاجة فقالت بنت أنس ما أقل حيائها, وأسوءتاه وأسوءتاه فقال لها أبوها أنس بن مالك هي خير منك, رغبت في النبي «ص» فعرضت عليه نفسها» وهذه واقعة اعتمد عليها الفقهاء في تأكيد حق الفتاة بأن تخطب لنفسها وليس في ذلك ما يعيبها أو يعيب المخطوب, فقد فعلتها خير النساء خديجة عندما خطبت لنفسها خير البشر محمد عليه السلام.
ليس هذا فحسب بل لقد أقر الإسلام الحب كأساس للزواج ففي كتب السيرة أن بريدة كانت أمة فزوجها سيدها من عبد رقيق اسمه مغيث, وحين اشترتها أم المؤمنين عائشة وأعتقتها صار من حقها فسخ الزواج, أو إقراره فاختارت بريدة فسخ الزواج, وكان زوجها شديد الهيام بها, وهو ما وصفه ابن عباس بقوله «كأنني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته» فقال رسول الله «لا تعجب من حب مغيث لبريدة ومن بغض بريدة لمغيث ثم قال عليه السلام لبريدة «لو راجعته» فقالت يارسول الله أتأمرني قال إنما أنا أشفع, فقالت فلا حاجة لي فيه».
ليست واقعة بريدة هي الواقعة الأهم في التدليل على أن الإسلام يقر بالحب كأساس للعلاقة الزوجية, فها هو رسول الله عليه الصلاة والسلام يعلن على رؤوس الأشهاد حبه لعائشة في أكثر من حديث وأكثر من واقعة, فعندما سئل رسول الله أي الناس أحب إليك قال عائشة وكان عليه السلام يقول دائماً لعائشة «حبك يا عائشة في قلبي كالعروة الوثقى» والعروة هي عقدة الحبل المتينة, فكانت عائشة تسأله بين الحين والآخر «كيف حال العقدة» فيرد عليه السلام «هي على حالها» وقد كان رسول الله يعبر عن حبه لعائشة بصور كثيرة في حياته اليومية, ومثلما كان عليه السلام يعلن حبه لعائشة كان يؤكد حبه للسيدة خديجة, وهو حب كان عليه السلام يدلل عليه حتى بعد وفاتها من خلال ذكره الدائم لها, وبره بصديقاتها, وبكل ما له علاقة بها, كما أن الحب أذاب فوارق السن بينه عليه السلام وبين كل من خديجة وعائشة. وهذا السلوك النبوي يؤكد ان الإعلان عن الحب هو سلوك بشري سوي لا تنكره الا المجتمعات المتزمتة، التي يكثر بها الشقاء الاسري.
خلاصة القول في هذه القضية أن الإسلام هو دين الفطرة الذي لا يعاكس العواطف والاحتياجات الإنسانية السوية، لذلك كان دين الحب والمحبة.