الفساد ينمو وسط بيئة مناسبة، وما يكبح هذه الآفة هو سلطة القانون وتطبيقه على الجميع وليس على المواطن البسيط فقط، وفق معايير عادلة بدون تمييز أو انتقائية تحكمها حسابات شخصية ومناطقية وعشائرية، لا يستثنى منها ابن أو قريب المسؤول، ويمكن تصنيف «الواسطة والمحسوبية» كأحد مظاهر هذا الفساد، الذي مضت سنوات كثيرة ونحن نلعنه ونسمع تصريحات تتعهد باجتثاثه دون أن نرى نهاية له!
وأصبح من البدهيات أن مكافحة الفساد تتطلب إرادة ومسؤولين نزيهين، لا يخضعون للضغوطات وابتزاز من قبل نواب أو غيرهم. فحتى لو وجدت أفضل القوانين لا قيمة لها بدون توفر إرادة جدية لتنفيذها، بالاضافة الى ضرورة تعزيز ثقافة مجتمعية تتفهم أهمية الالتزام بالقانون! بعد أن وصلنا الى مرحلة أصبح المواطن، يظن أن أي معاملة أو خدمة أو فرصة عمل تتطلب الاستعانة بالواسطة، وذلك أحد تداعيات تراجع الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة!
عام 2004 كنت أبحث عن واسطة لإيجاد فرصة عمل لشقيق لي، وفي ذلك الوقت كان رئيس ديوان الخدمة المدنية الصديق مازن الساكت، وتعود معرفتي به الى سبعينات القرن الماضي، فزرته في مكتبه وعرضت عليه مطلبي، فشرح لي الاستراتيجية الجديدة لعمل الديوان، لمعالجة الاختلالات المتراكمة في الجهاز الوظيفي وتطوير واقع الموارد البشرية وتحقيق العدالة في التعيين وفق أسس واضحة، وبالنتيجة اعتذر لي عن عدم خرق هذه الاجراءات، فشكرته على هذا الوضوح والشفافية وخرجت راضيا ومقتنعا بما سمعته.
لكن في سنوات لاحقة بدأت الاختراقات لهذه الأسس بفعل الواسطة والمحسوبية، التي يمارسها مسؤولون وقسم كبير من التعيينات هي عبارة عن ترضيات للنواب!
وبعد فترة قصيرة قمت بزيارة وزير الزراعة في حينه، وتربطني به أيضا صداقة تعود لثمانينيات القرن الماضي وعرضت عليه مطلبي، وكان عنده مدير المركز الوطني للبحوث الزراعية في حينه التابع لوزارة الزراعة، فأخرج الوزير من درج مكتبه كشفا يتضمن حصص «كوتات» من الوظائف وغالبيتها من الفئة الثالثة أو عمال المياومة، هي عبارة عن ترضيات للنواب، وبدأ يراجع الكشف وكاد يشد شعره من حجم الضغوط والابتزار الذي يتعرض له! وسأل مدير المركز عن توافر فرصة عمل لديه، فأجابه بتوافر وظيفة عامل مياومة في مزرعة نخيل تابعة للمركز في منطقة الغور الاوسط، لكن شقيقي لم تعجبه هذه الفرصة فرفضها!
نحن أمام حالة مرضية متداخلة، تشارك فيها أجهزة الدولة والنواب وأصحاب النفوذ المالي والسياسي والاجتماعي بمختلف مواقعهم. قد لا يكون سهلا استئصال المرض، لكن لا بد من البدء وصولا إلى إجراء جراحة للورم.