ليس بقصد التقدير الرفيع الذي قصده الشاعر المصري حافظ ابراهيم حين أنشد ((قم للمعلم وفّه التبجيلا، كاد المعلم ان يكون رسولا)) أنوي اليوم أن أتحدث عن واحد من أولئك الذين عرفناهم وقد أفنوا أعمارهم في تعليمنا في مدارسنا المتهالكة مبنىً وتجهيزاً، فهم لم يكونوا في دواخلهم بمصدقين تلك المبالغة في مدحهم وقد ضنت عليهم الحكومة المفقَرة أصلاً كما غضت الطرف مكرهةً عن فلسفة التعليم الاستعماري المسممة لعقول تلاميذهم.
كان احدهم، معلم الرياضيات يعقوب هاشم، ذَا قدرة فائقة على حل المسائل الحسابية بطرق متعددة توصلنا بالمنطق والقواعد الرياضية الى النتائج الصحيحة، منبهاً الى ان القصد ليس النجاح في الامتحان فحسب بل ايضاً الاستمتاع بانتصار العقل القادر في النهاية على امتلاك نواصي الحياة المنتجة، وكم كان يدهشنا ان تصدر هذه الفلسفة عن إنسان يضطر كل يوم اثناء حصصه ان يتجاوز بتسامح العلماء دعاباتٍ سمجة يطلقها بعض تلاميذه حد اثارة غضبه ليحيلهم الى المدير كي «يؤدبهم»، كما كانت تدهشنا خلفيته المعرفية الفرنسية ونحار من اين أتت!
لم نكن في المدرسة الثانوية قبل ثلاثة ارباع القرن قد بلغنا من الوعي بعد ما يمكننا من ادراك كنه فكره السياسي او الاجتماعي حتى بعد ان قرأنا له في مجلة ((ثانوية عمان)) سطوراً قال فيها: ((ان التاريخ يُكتب بدماء ومعاناة الشعوب لا بفرمانات الاباطرة وبمباركة الباباوات!))، او بعد ان استمعنا له لاحقاً يحاضر في ناد ثقافي فيقول بحزم: ((لن تتقدموا قط اذا لم يسوّدْ جدرانَ مدنكم دخانُ مصانعكم حيث تقود النقابات العمالية مسيرة الاشتراكية)) كما لم نكن نستوعب معنى نظام الطبقات في المجتمع كي نهضم على الاقل حقيقة كانت تحيّرنا في حياة استاذنا يعقوب هاشم وهو شقيق رئيس وزراء البلاد لكنه فقير يكافح من اجل تأمين عيش صعب لعائلته أُسْوَة بباقي موظفي الدولة الشرفاء ولا يركن الى المحسوبية حتى لو عانى في الشتاء من البرد اذا لم يتطوع احد تلاميذه من اشداء السواعد بالذهاب الى بيته المتواضع في حي المصاروة ليقطّع بالفاعورة حطب الصوبة فيوفر اجرة عامل!
اما عن مستوى التعليم في مدارسنا ايام زمان فلن تجرّني النوستالجيا المتوهمة الى التباكي عليه زوراً فحقيقته المرة لا تسند ادعاء البعض بغير ذلك، لكن من قلب معاناتنا كطلاب فقراء ومعاناة معلمينا من شظف العيش استطعنا معاً ان نشق الطريق وان نساهم في بناء مجتمعنا في مختلف الميادين، وقد تم لنا ذلك في وجه تآمر استعماري يكفي القول بانه كان يحضّر لتنفيذ وعد بلفور! ولقد أسستْ مسيرتنا مع معلمينا الأوائل لفكر سياسي معارضٍ مقاوم نما وترعرع رغم الاحكام العرفية (وكانت تدعى تمويهاً قوانين الدفاع) المؤدية للمعتقلات والسجون!
وبعد.. فهذه هي شرق الاردن التي كتبتْ تاريخها القصير بأيدي ابنائها، وفي مقدمتهم كان المعلمون!
مواضيع ذات صلة