د. أحمد يعقوب المجدوبة
دولة القانون هي مطلبنا جميعاً، وهي ركيزة المجتمع الحضاري الذي يحافظ على حقوق الجميع، أفراداً ومؤسسات، بحكمة وحرفية وعدالة.
ما يُميّز دولتنا أنها دولة مؤسسات؛ وتلك المؤسسات هي التي ترجمت رؤية الدولة وخططها إلى واقع ووضعتنا في الصدارة.
وأساس دولة القانون التشريعات التي تحكم عمل المؤسسات وتنظم العلاقات بينها وبين من يتعاملون معها.
والأصل أن تكون التشريعات دقيقة وواضحة، وعملية وواقعية. والأصل أن تكون وسيلة لا غاية؛ فالغاية هي تحقيق العدالة بين الناس دون تفريط، ودون غلو.
نعترف أننا مررنا بحقب كان فيها نوع من التراخي في تطبيق القوانين. وهذا أمر غير صحي، وكانت نتيجته كثرة المخالفات والتجاوزات. وليس أدل على ذلك من الحالة المرورية التي تؤرقنا.
وهنالك أمثلة أخرى كثيرة عن مخالفات وتجاوزات ارتكبت في العديد من المؤسسات أدت إلى بروز «الفساد» كظاهرة ومشكلة مُقلقة.
وبهدف محاربة هذه الظاهرة، تحرّكت الدولة نحو تطوير التشريعات لسد أي ثغرات فيها، ونحو تفعيلها وتطبيقها بحزم لأجل القضاء على المخالفات والتجاوزات، والتصدي لآفة الفساد.
كما قامت الدولة بتعزيز دور الجهات الرقابية، وزيادة عددها.
وهذا كله مُقدّر، لأن النقلة في الدولة التي ننشدها في المئوية الثانية تتطلب جهوداً حثيثة.
لكننا في التوجه نحو سن مزيد من القوانين وتطبيقها على نحو صارم، لا بد من أخذ الآتي بعين الاعتبار حتى يتأتى المحمود لا الذي لا يُحمد عقباه:
أولاً، أن يتّسم نهجنا في سن القوانين وفي تطبيقها بالجدية والحزم المُؤسسين على الفهم العميق والحكمة والخبرة والعقلانية، ولا يتسم بالتشدد والغلظة المؤسسين على العاطفة والشعبوية والإفراط في استخدام السلطة.
ثانياً، عدم المبالغة في عدد الجهات الرقابية المخولة برصد عمل المؤسسات لأن الزيادة في العدد قد تضر ولا تنفع؛ ولا بد من التنبه إلى عدم إعطاء تلك المؤسسات صلاحيات أكثر من المطلوب لأن الإفراط في ذلك يؤدي إلى التسلط والتعسف.
ولا بد من التنبه إلى تكامل عمل تلك الجهات لا تداخله أو تكراره، أو تعدي بعضها على صلاحيات البعض. مبدأ الفصل بين السلطات وتكامل عملها أمر حاسم.
ثالثاً، في فعل ذلك، وفي التصدي للفساد، يجب أن لا نُغلّب الجانب العِقابي على الجانب الوقائي. مع الأسف بدأنا مؤخراً نشهد تركيزاً مبالغاً فيه على العقاب، والأصل – قبل المحاسبة – التوعية والتمكين والتربية؛ على مبدأ مكّن ثم حاسب.
رابعاً، محاسبة المخطئ عن عمد والمخالف عن قصد والفاسد واجبة. لكن محاسبة المفتري على الآخرين والكاذب المغرض واجبة كذلك، فمثلما يُحاسب المسؤول الفاسد على فساده، لا بد من محاسبة المغرض ومغتال الشخصية على فعله المشين؛ لأن الفعل في الحالتين جسيم ومُدمّر.
خامساً، يوجد في مجتمعنا فساد؛ في المؤسسات وفي المجتمع. والمطلوب البحث عنه بذكاء وحرفية واجتثاثه بمهنية وصمت، دون مبالغة ودون تسرع حتى لا نؤذي صورة الوطن ونظلم الناس.
نحن الآن على مفترق طرق، فإما أن نفعل الصواب بتعقل ومهنية فننقذ مجتمعنا من الآفات التي تعتريه، وإما أن نبالغ في ردة فعلنا ونجعل الهواة والمغرضين يتحكمون في قراراتنا، فنكون كالدجاجة الني حفرت، على رأسها نثرت، فيزيد ما نفعله عن حدّه فينقلب إلى ضدّه. نعوّل على الأطراف المعنية في الدولة لفعل الصواب، لكننا نعول أكثر على الشخصيات القانونية الوازنة في مجلسي الأعيان والنواب للخروج بقوانين عصرية محترفة.
ولا ننسى في كل الأحوال أن الضامن لحقوق الجميع هو قضاؤنا العادل المعروف بنزاهته واحترافيته.