د. أحمد يعقوب المجدوبة
يقاس رقي المجتمعات وتحضّرها، تماماً كما يقاس رقي الأفراد وتحضّرهم، بدرجة رقي اللفظ وسوية المسلك وحسن المعشر.
ففي المجتمعات المتحضرة يكون الأفراد غاية في الأدب عندما يتحدثون أو يناقشون المواضيع على اختلاف أنواعها أو يتحاورون؛ يختارون كلامهم بعناية، وإذا أرادوا الانتقاد أو الاختلاف عبروا عن ذلك بكل موضوعية ولباقة ولياقة.
وأهم ما يميز مسلكهم العام احترام الآخرين واللطف في التعامل معهم وعدم التعدي على حقوقهم.
معظم الناس في مجتمعنا يتحلون بهذه الصفات، فاللياقة واللباقة والأدب والشهامة هي من صفاتنا المتأصلة، مع أن بعض التراجع قد حصل لدى بعض الأفراد والشرائح نتيجة للحالة المدنية التي دخلناها على عجل.
فمع الكثافة السكانية في مدننا الكبيرة وفي بعض التجمعات، أتت الإشكالات والتعقيدات التي أخرجت بعض الأفراد وبعض الشرائح عن أطوارها وعن العادات الحميدة التي ألفناها.
هنالك سياقان بالتحديد يخرج فيهما بعض الأفراد في مجتمعنا عن اللفظ والسلوك المألوفين، ويمارسون نمطاً من الغلظة والعدوانية غير متسق مع قيمنا وعاداتنا.
السياق الأول ويتمثل في الحالة المرورية التي نتذمر منها والتي تقوم فيها قلة مزعجة بممارسة بعض السلوكات اللفظية والفعلية غير المقبولة.
الغريب في الأمر أنك إن تحدثت مع أحدهم في بقالة أو في مكان عمله أو في مناسبة اجتماعية تجده غاية في اللطف والتحضّر؛ لكنه ما أن يجلس خلف مقود السيارة حتى يصبح شخصاً آخر: نَزِقاً، عصبياً، غليظاً، وأحياناً عدوانياً.
أما السياق الثاني فيتمثل في سلوك البعض على وسائل التواصل الاجتماعي والتي أصبحت تقضّ مضاجع مجتمعنا نتيجة ممارسات البعض غير المقبولة، لا بل والمستهجنة، والتي ينطبق عليها ما قلناه للتو عن الحالة المرورية.
أشخاص تقابلهم في الحياة فتجدهم غاية في الود واللطف والعقلانية، لكن ما أن يبدأوا بالكتابة أو المشاركة أو التعليق حتى تتفاجأ من غلظتهم وعدوانيتهم المؤسستين على التفكير السطحي وعلى عدم التسامح وتقبل الطروحات المغايرة.
نؤكد أن من يقومون بهذه الممارسات، في كلتا الحالتين هم قلة قليلة، فالأغلبية تتسم بالأدب الجم والخلق الرفيع والتسامح وتقبل الآخرين، على مبدأ «وجادلهم بالتي هي أحسن"؛ لكنها أقلية مزعجة وتحدث أثراً أكبر من حجمها.
ومن هنا لا بد من التعامل مع الحالتين، تربوياً وقانونياً، بكل حزم، حتى يتم القضاء على ظواهر العدوانية في ردود الفعل وضيق الأفق والتعصب والتطاول على الآخرين؛ وحتى نكرس المبادئ التي يتحلّى بها مجتمعنا، القائمة على الاحترام المتبادل والتسامح والإيثار والعفو وسعة الصدر.
ولنا في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، عبرٌ وقيمٌ راسخة تتصل اتصالاً مباشراً بموضوعنا هنا، عندما قال: «إياكم والجلوس في الطرقات». فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها. فقال رسول الله: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه.» قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر».
نعم، للطرقات، سواء كانت حقيقية أم افتراضية، حق؛ وكفّ الأذى مطلوب.