الأب هو غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي الأشهر في عصرنا، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٨٢، والأم هي مرسيدس بارشا زوجته التي رافقته حتى وفاته عام ٢٠١٦ وتوفيت في العام الماضي، والابن هو رودريغو غارسيا المخرج السينمائي والتلفزيوني الذي الف عنهما مؤخراً مذكرات حميمة بعنوان «وداعاً غابو ومرسيدس» وعلق عليها ميغيل سالازار في النيويورك تايمز٢٤ تموز٢٠٢١ قائلاً انها ذكريات عاطفية عن حياة والديه، فعن والده قدم لوحةً مؤثرة كيف بات كثير النسيان، محبطاً قانطاً وعاجزاً عن الكتابة او التعرف على الوجوه المألوفة له، وعندما يقلّب صفحات احد كتبه تبدو عليه ملامح الدهشة لرؤية صورته على الغلاف وقد تساءل مرةً: من أين أتى (!) بكل هذا الكمّ من المشاهد والاحداث؟.. ولما تقدمت به حالة الخرف احتفظ بروح الدعابة الساخرة فكان يقول مثلاً: انا أفقد ذاكرتي لكن لحسن الحظ أنسى انني أفقدها! وبقي قادراً على ترديد اشعار قديمة جداً، ويغني فقرات من أغاني ڤاليناتو (مقاطعة في كولومبيا)، وتشعّ عيناه بالحنين عندما يفتح النوتات الموسيقية للأكورديون..
كان يحب كثيراً رسم صور الذاكرة والزمان في رواياته ولما اشتدت حالته العقلية سوءاً أصبح على شفا فقد الاثنين معاً وهو الذي كان يقول إن الذاكرة هي أداتي ومادتي الخام.. لا أستطيع الكتابة بدونها! ولقد أدرك الابن ان أسوأ ما في (موت) والده انه الجزء الوحيد في (حياته) الذي لم يكن بمقدوره ان يكتب عنه!
وفي كلمته اثناء الجنّاز في مكسيكو سيتي استذكر قوله الذي كان يردده كثيراً «للإنسان ثلاث حيوات، حياة عامة وحياة خاصة وحياة.. سرية» ثم نظر ملياً في وجوه الحضور لعل بينها من كانت (او كان) جزءاً من حياة والده السرية! وعن أمه مرسيدس كتب رودريغو غارسيا واصفاً لحظة رحيل ابيه كيف كانت امرأة قوية أخفت بكاءها وسط شهقات متقطعة لكنها ظلت متماسكة، وبقيت حتى مماتها في آب ٢٠٢٠ «امرأة مستقلة معتدة بنفسها لدرجة صارمة حتى انها حين أشار لها الرئيس المكسيكي في كلمته بوصفها (أرملة) اثناء الاحتفال التذكاري بالراحل في قصر الفنون الجميلة في مكسيكو سيتي هددت بأنها ستصرح لأول صحفي تقابله عن خططها للزواج مرة اخرى!!
وبعد.. فان غابرييل غارسيا ماركيز الذي شغل الدنيا برواياته الرائعة وعلاقاته الشخصية مع كثير من زعماء العالم التقدميين واليساريين وفي مقدمتهم فيديل كاسترو كان محط اهتمام وتقدير الملايين في كل مكان وكان يحب ان يدعوه «غابو»، وحين نويت ذات يوم من عام ١٩٩٢ان ألتقيه في بيته الصغير الجميل في مدينة كارتاهينا (قرطاجنة) في كولومبيا ووجدته قد سافر، شاهدت بنفسي جموعاً من محبيه والمعجبين بأدبه لا ينفكون يتوافدون.. لمجرد إلقاء التحية على المكان!
محظوظٌ انا لأني سأبدأ غداً الاستماع لهذه المذكرات في الكتاب الصوتي على الانترنت يقرأها رودريغو غارسيا نفسه، ولعلي بعد ذلك أعلق عليها.
مواضيع ذات صلة