د. جواد العناني
قصصي مع المناصب في الأردن تستحق أن تروى. والنهاية التي أود الوصول إليها أن المناصب لا تأتيك إلا بالسعي والجهد، فلا تنتظر حصولك على استحقاق في كل مرة تنجز فيها. اعمل أحسن ما عندك، وسوف يؤتيك الله، والخيرون من خلقه، ما تستحق طال الزمان أم قصر.
بعد ما عرضنا الخطة الخمسية الأولى على القوات المسلحة والأمن في قاعة مدينة الحسين الطبية عام 1976، وأغشي على الراحل د. حنا عوده، وقمت بشرح الخطة بدلاً عنه، تساءل الراحل العظيم الملك الحسين قائلاً «وين مخبيين هذا الشاب»، ونلت استحسان سمو الأمير الحسن بن طلال، وصرت أصاحب سموه في جولاته المختلفة في أنحاء المملكة نشرح الخطة وأهميتها. وكان يرافقنا في كل مرَّة أحد الوزراء في حكومة دولة مضر بدران الأولى. وذات مره ذهبنا إلى قاعدة الأمير الحسن الجوية في طائرة عسكرية أقلعت بنا من مطار ماركا العسكري.
وفي طريق العودة، صار الوزير المرافق، المرحوم عصام العجلوني، يشكو من ظلم الاقتصاديين للاجتماعيين. «إنهم لا يعرفون سوى الأرقام والشيء التجاري المربح، والمال تحت تصرفهم، ونحن الاجتماعيين نريد أن نتصدى للفقر والبطالة وتحسين أوضاع العمال. ونظر إليّ وقال «أليس هذا صحيحاً يا دكتورنا الاقتصادي؟"
فقلت له أنتم بحاجة إلى اقتصادي لكي يجعل منطقكم كاجتماعيبن مقبولاً. لا يكفي أن تقولوا هذا مهم، وذلك غير مهم. أنتم تتحدثون عن الوسائل ولا تجدون لها وسيلة للتطبيق؟ أنت معاليك تتحدث عن الضمان الاجتماعي، ولكن حلمك ينقصه الخطوات العملية للتطبيق.
وتدخل سمو الأمير الحسن في النقاش قائلاً «ولماذا لا تأخذون جواد اقتصادياً معكم؟» فأشار عصام العجلوني رحمه الله إليّ وقال «هل تقبل أن تأتي للعمل في القطاع الاجتماعي؟» كنت مطلعاً على أحوال وزارة العمل فقد عملت رئيساً لمجلس التوفيق بين نقابة عمال المواد الغذائية وشركة الانتاج بالرصيفة. وكذلك قدمت عدداً من المحاضرات في معهد الثقافة العمالية. وقلت لا. فبالنسبة لي أيامها كانت رئاستي لدائرة البحوث الاقتصادية في البنك المركزي أهم وأقرب إلى تخصصي. وبعدها بأيام، استدعاني معالي د.محمد سعيد النابلسي محافظ البنك المركزي إلى مكتبه وقال «تكلم معي دولة الرئيس اليوم، وقد أخذ موافقة جلالة الملك على تعيينك أميناً عاماً (وكيل وزارة) لوزارة العمل. ورجوته أن يعفيني من هذا الأمر ولكنه قال لي إنها ترقية عن موقعك الحالي، وأنت مطلوب هناك.
وهكذا انتقلت في شهر نيسان عام 1977، أميناً عاماً لوزارة العمل بعدما صدرت الإرادة الملكية بذلك في اليوم الثاني على قرار مجلس الوزراء. وذهبت للعمل في مبنى الوزارة بجبل الحسين. وبعد ربع ساعة من جلوسي في مكتبي وأنا شاعر بالوحشة والغربة، استدعاني معالي الوزير وقال لي لقد طلب الديوان الملكي أن نعد رسالة من جلالة الملك إلى دولة الرئيس لكي تبدأ الحكومة باعداد قانون الضمان الاجتماعي. أنت الرجل المختص، فاذهب واكتب الرسالة. وقد كان.
ولما أنهينا القانون عام 1978، بذلت كل جهد ممكن كي يوشحه الملك بتوقيعه السامي، فقال لي جلالته «يا أخي الحبيب. لقد شكلنا المجلس الوطني الاستشاري، وهذا سيكون أول مشروع يعرض عليه. ماذا سيقول الناس عن المجلس أن تناسينا دوره».
وبعدما صدرت الإرادة الملكية بالقانون. عينت مديراً للضمان الاجتماعي بالوكالة بالاضافة إلى عملي كوكيل لوزارة العمل. وقررت الحكومة أن تخصص للضمان مبلغ (100) ألف دينار نصفها هبة غير مستردة، ونصفها الآخر قرض يسدد عند توافر الامكانات، وبدون فوائد. وذهبت إلى وزارة المالية لقبض الهبة، فرفض المرحوم فرحي عبيد أمين عام وزارة المالية أن يعطيني المبلغ قائلاً «الضمان هذا قانون رايح يخرب البلد، شوف ايطاليا شو صار فيها». وكان في فمه سيجارة، وفي يده سيجارة، وفي المنفضة سيجارة فقلت له بهدوء «هنالك قانون، وهنالك قرار مجلس الوزراء»، فقال وقد انكب على عشرات الملفات على مكتبه «روح ... يا الله.. أنا مش فاضي». وحينها فقدت أعصابي وهجمت عليه، وشددته من قميصه صائحاً «مش مصاري أبوك.. هات الفلوس يعني هاتها». وسمعنا الوزير الراحل معالي محمد الدباس، فجاء مسرعاً «شو القصة... الخلايلة بتهاوشوا..» وأمر بكتابة الشيك وأخذته وانصرفت.
وبعد ستة أشهر من عملي في المنصبين قررت أن أخاطب الوزير بأنني لا أستطيع الاستمرار في الوظيفتين، وطلبت أن أتفرغ مديراً عاماً لمؤسسة الضمان. فطلب مني أن أكلم دولة الرئيس مضر بدران. ولما حصلت على الموعد قال لي «لا... لا.. أريدك أن تبقى في وزارة العمل، أو تذهب لمديرية ضريبة الدخل». فقلت له الضمان مهم جداً، سيكون فيه مبلغ لن يقل عن (5) مليارات دينار بعد عشرين سنة. ففتح عينيه وقال «ماذا؟؟ ماذا تقول.. تَرنّه مش معقول». وكان الباشا مغرماً بكلمة ترنّه، أو ترى أنه» مختصره. وقد بادرته يوماً بقولي «في اللغة العربية كان وأخواتها، إن واخواتها، وترنّه وأخواتها» وترنّه وأخواتها هي «ترنّه، اسمنّه، عمنّه، إكْمنَّه، لَونّه. عَشَنُّه، إلخ». ولما اقتنع بصوابية الأرقام قبل، وهكذا تفرغت في شهر آذار عام 1979 للضمان الاجتماعي.
وحصلت ندوة سياسية دولية في عمان ترأسها في ذلك الوقت سيادة رئيس الديوان الملكي الشريف عبدالحميد شرف. وكان بين الحضور الصحفي الأميركي واليهودي الديانة «جوزيف كرافت» وقد قدم مداخلة حمل فيها على الإسلام بأنه دين مانع للتقدم والنمو الدائم. وطلبت الكلام ورددت عليه بقسوه، واتهمته بأنه لا يعرف شيئاً عن الدين مبيناً مغالطاته التي وردت في مداخلته. وغضب الرجل مني وأصر على أن أعتذر أو أنه وبعضاً من مؤيديه سينسحبون من المؤتمر. وحادثني سيادة الشريف قائلاً «سأترك الأمر لك لتقرر أنت ما تشاء». وفكرت في الأمر ثم لما عدنا إلى المحاضرة التالية رفعت يدي طالباً الكلام، فأعطيته وقلت» لقد غضب السيد كرافت في تعليقي على مداخلته ولم أقل له إنه أهان ديني، بل فندت ما قاله بالمنطق والدليل، وهو غضب شخصياً مني. لم أكن أتقصده كشخص ولا كصحفي، بل أنني أحب عموده في «نيويورك تايمز» قدر حبي لأعمدة العزاء والوفيات». وضج الحاضرون بالضحك. وقال من بعدي » هذا شخص يصعب الامساك به، ولكنه صاحب نكتة لاذعة، وأنا قبلت تفسيره».
ونشر بعدها سيادة الشريف مقالاً طويلاً بمساحة صفحة كاملة في صحيفة الرأي يتحدث فيه عن الإصلاح في الأردن، ووسائل تعميق الولاء والمواطنة، والتماسك مع الوطن العربي خاصة وأن مؤتمر القمة التالي كان مخططاً له أن يعقد في عمان عام 1980، وقد علقت على مقال سيادته محللاً وناقداً ومقدماً وجهات نظر مؤيدة أو بديلة. فاتصل بي سيادته من الديوان الملكي ليهنئني على مقالي مادحاً له بطريقة جعلتني أعرق.
وقبل ذلك في عام 1978، قامت حكومة الأستاذ مضر بدران برفع سعر الخبز والنخالة، فثارت العشائر ومن بينها بنو صخر، واندلعت المظاهرات، وقررت الحكومة تشكيل لجنة من وزير الدولة لشؤون رئاسة الوزراء، ووزير النقل، والتموين، والاتصالات، والداخلية، ومحافظ البنك المركزي لكي يُعِدّوا بياناً حكومياً يشرح سياسة الحكومة التموينية، وأسباب رفعها لسعر الخبز والنخالة. وكان من المفروض أن يُلْقى البيان في المجلس الوطني الاستشاري بعد يومين من اتخاذ المجلس قراره.
واجتمعت اللجنة صباح اليوم التالي في وزارة التموين. وبينما أنا في مكتبي رن جرس الهاتف ليطلب مني معالي محافظ البنك المركزي د. محمد سعيد النابلسي حضور الاجتماع. ودخلت عليهم، فقال لي معالي سليمان عرار، ما رأيك أن تعد لنا مسودة بيان الحكومة ونعود للاجتماع هنا الساعة الخامسة بعد الظهر حتى نستمع لما كتبت. وعدت إلى البيت بعدما زودني معالي مروان القاسم وزير التموين ببعض الوثائق.
كان الطقس ثلجياً، وعدت إلى منزلي بشارع ابراهيم قطان قرب الدوار السابع. وانفتحت قريحتي على الكتابة، وبعد حوالي ثلاث ساعات ونصف الساعة كنت قد كتبت أكثر من خمسين صفحة » فولسكاب» بخط اليد. وفجأة سمعت صوت » موتور سايكل»، والثلج يتساقط في شهر شباط. ورأيت شرطياً يرجف من البرد ويقول «اسمع يا عمي، هذا بيت العناني». فقلت نعم، «يا عمي ليش ساكن آخر الدنيا وما عندك تلفون، دولة الرئيس بيقلك جيب أوراقك والحقني». وحملت الأوراق وذهبت إلى منزل رئيس الوزراء بالقرب من وزارة المياه حالياً (طلعة البلاستيك). وسألني هل كتبت شيئاً؟ قلت نعم، فتساءل «هل كتبت كل هذه الأوراق؟» قلت نعم، قال إجلس. وأخذ يقرأ، ثم رفع رأسه ونادى على أحد ما يطلب صحن سيجارة (منفضة)، وطلب فنجانين من القهوة لي، وله واستمر يقرأ.
ولما قاربت الساعة على الخامسة قلت له «تسمح دولتك تعطيني الأوراق عشان اللجنة مجتمعة الساعة (5) بوزارة التموين. فقال متعجباً «ولكنني لم أنته من القراءة». قلت صحيح، ولكن اللجنة تنتظرني، بيزعلوا مني بعدين». فحمل سماعة الهاتف وخاطب معالي مروان القاسم «إذا كان الإخوان عندك بيسمحوا لي، أن أقرأ ما كتبه د. جواد، وآمل أنهم يقبلوا رأيي في اللي انكتب، ترنّه المكتوب اشي كويس»، واستمر في القراءة، وكان ذلك بيان الحكومة، والذي قدمه مضر باشا للمجلس الوطني الاستشاري في اليوم التالي، وطبع في صحيفة الرأي، ووزعت منه خمسمائة نسخة.
كان يوم السادس عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 1979، وقد عدت يومها من رحلة إلى الكويت لأطلع على تجربة التأمينات الاجتماعية عندهم، وكنت قبلها قد اطلعت على تجربتي العراق وسوريا وتعلمت من الأخطاء التي أرتكبت، والتي بينها لي الجانبان بكل حب وأريحية حتى لا نكررها في مؤسسة الضمان عندنا. لما وصلت المطار من الكويت، قيل لي إن أذهب فوراً إلى الديوان الملكي العامر لمقابلة سيادة الشريف عبدالحميد شرف. وقد كان. وجلست انتظر وقد جلس إلى جانبي رجل ما شاء الله كبير وطويل القامة. ونظر إلي وقال » ممكن أسأل مين بتكون؟». فقلت أنا اسمي جواد العناني. قال نعم سمعت عنك. وصَمَتُّ قليلاً ثم قلت «وهل لي أن أسالك من أنتم». قال نعم أنا نجيب ارشيدات. وصَمَّتُ خجلاً فقد سبقت الرَجُل سُمْعَتُه الطيبة، ولكنني لم أكن قد قابلته من قبل.
ودخل معالي الأستاذ نجيب قبلي لمقابلة سيادة الشريف، وأنهى اللقاء بعد ربع ساعة. ولما دخلت كان المرحوم الشريف يبتسم، وقال لي: «هل تعلم أن أباك كان أستاذي في الكلية العلمية الاسلامية؟» قلت نعم وقد كان يحترمك ويعتقد أنك تلميذ نجيب، وسألني: «ما رأيك في الاقتصاد، وهل النمو الذي يجري حقيقي أم مجرد انتفاخ؟» فقلت له لقد ذكرتني سيادتكم ببيت المتنبي عندما خاطب سيف الدولة الحمداني.
إني أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً
أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
فضحك، واستمر الحديث عن ضبط الاستهلاك وترشيده، ورأيي في ضبط الأسعار حيث كان الغلاء إبانها يصل إلى 16% بسبب ارتفاع أسعار العالم بعد هزة النفط. وبعد حوالي ساعة تساءلت قائلاً » هذه المقابلة أقرب إلى مقابلة وظيفة منها إلى نقاش اقتصادي. فبتسم وقال «سيدنا كلفني وأريدك ضمن الفريق» صدقوني لم أفهم القصد. فقلت «أي فريق؟» فقال متصبراً «يعني سيدنا طلب مني أشكل الحكومة وأريدك أن تكون معي في الفريق». فقلت يعني بدك اياني أصير وزير؟». قال نعم. وكان ينظر إليّ نظرة سهير البابلي إلى الشاويش عطيه (أحمد بدير) في مسرحية «ريا وسكينة»، وكأنه يقول «افهمت يا ..؟».
لم أذكر الأمر لأحد. وألح عليّ الجميع بالسؤال أن اسمك مطروح، إلى أن كان يوم التاسع عشر وإذا بزوجتي تتصل معي هاتفياً قائلة «إجو وركبوا تلفونين في البيت، مبروك التلفون». حينها فقط أخبرتها. واتصلوا بنا من الديوان الملكي لكي نكون هناك الساعة الثالثة بعد الظهر. زوجتي ألحت أن أذهب للبيت لأغير البدلة. أما أنا فقد بقيت في المكتب لأنهي أعمالي وأودع الموظفين زملائي الأعزاء في مؤسسة الضمان الاجتماعي.