د. هزاع عبد العزيز المجالي
لقد جاء (اليهرودسيين) يسألون سيدنا المسيح عليه السلام متظاهرين بالتدين: أيجوز أن نعطي لقيصر الجزية, أم نعطيها لك؟, في حين كان ذلك حيلة ليصطادوا بها سيدنا المسيح, فيسلموه إلى القيصر, فطلب منهم دينارا, وقال: لمن هذه الصورة التي على الدينار؟ فقالوا: إنها للقيصر, فأجاب: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله».
لقد فسرت مقولة سيدنا عيسى عليه السلام لاحقا, بأن ما قاله هو دعوة لفصل الدين عن الدولة, ورغم ذلك بقيت السلطة الدينية (الكنسية) تتحكم في الدولة, وتضع السلطة الزمنية (المدنية) تحت وصايتها, إلى أن جاء ما يسمى (عصر النهضة)، وما رافق ذلك من حروب أهلية في القرنين السادس عشر والسابع عشر, وتم على إثرها تحجيم دور الكنيسة لصالح الحكام والملوك, إستنادا لمقولة سيدنا المسيح بفصل الدين عن الدولة. ليقود بعدها المفكرون والفلاسفة ما يسمى بحركة (الموسوعيين) أو العلمانيين, أصحاب نظرية (العقد الاجتماعي), التي أدخلت أوروربا هي الأخرى إلى عهد الاقطاعيات وإلى صدام وصراع مرير وحروب أهلية, للوصول إلى عصر النهضة الصناعية والديمقراطيات الحديثة, القائمة على (المواطنة) كاساس للعلاقة بين جميع مكونات المجتمع والسلطة.
بعيدا عن النقاش والجدلية حول إذا ما كان الدين الإسلامي الحنيف لا يفصل الدين عن الدولة, أي بمعنى أن الدين منهجا دستوريا وتشريعيا (ديني دنيوي), يحدد هيكل الدولة ومنهجها, في حين أن نقطة الخلاف والنقاش الدائرة بين المفكرين والفلاسفة حاليا حول حداثة هذا الشعار منطوقا ومضموناً، ومقدرته على الاندماج في النظام العالمي الحديث, أو بمعنى آخر: هل هناك تعارض يمنع اندماج الدولة الإسلامية وفقا لهذا المفهوم مع النظام العالمي القائم على القوانين الوضعية, وهل الخلاف قائم حول المعتقد والمنهج, أم هيكل الدولة (دولة اسلامية)؟ فإذا ما كان هذا الأخير ليس محط خلاف في المجتمع الدولي, فكثير من الدول الإسلامية تعلن عن أنها دولة إسلامية مدنية, تشكل الشريعة الإسلامية أهم مصادرها القانونية, وتعمل على المواءمة ما بين التشريع الديني والتشريع الوضعي, كمصادر لنظام وهيكل الدولة, باعتبار ذلك نتاج التحديث والاندماج في النظام الدولي الحديث. فإذا ما قبلنا بهذا الطرح, فتبقى المشكلة بين من يرى أن هذا يعني بالضرورة فصلاً للسياسة عن الدين وكل ما هو سياسي, فالسياسة ممارسة مدنية محضة دون أي بعد ديني, وهم يقبلون بالدولة المدنية في إطار مدني, ينظم الدولة ويتيح للجميع حقوقا وواجبات متساوية بالمشاركة في الحياة السياسية، وبين من يؤمن بمفهوم الإسلام السياسي, وهم على الاغلب من أصحاب ما يعرف بالتيار الإسلام الأصولي السياسي. فالإسلام لديهم (دين ودولة). وفي النهاية وبعيدا عن هذه الجدلية, فلا بد من جميع أصحاب الفكر الديني مهما كانت توجهاتهم, الاندماج والقبول بالدولة المدنية الحديثة السائدة (دولة القانون), القائمة على التعددية الفكرية والمساواة في الحقوق والواجبات, التي تتيح للجميع حرية المشاركة والتعبير, وقبول الرأي والرأي الآخر, القائمة على أساس (المواطنة الصالحة), التي يؤمن الجميع فيها بأن المصلحة العليا للدولة فوق كل اعتبار, دون إقصاء مهما تعددت الانتماءات والتسميات واختلفت القناعات, فالعدل أساس الحكم, سواء كان بتشريع سماوي أو بشري.