أبواب - وليد سليمان
محمد الأمين بن مايابى الشنقيطي (1905- 1990) رجلُ دولة وأحد الاستراتيجيين الكبار, وهو علم من أعلام الفكر والسياسة والدين في الاردن والوطن العربي.
أما لقب «مايابى» فهو يعني الشخص يحبذ العطاء ويرفض الأخذ, ويحب الكرم جداً.. وهذا اللقب ناله جده الاكبر في بلاد شنقيط بالمغرب العربي.
وقد شغل محمد الأمين الشنقيطي في الدولة الاردنية مناصب عديدة منها: نائب رئيس وزراء، ووزيرا للتعليم وقاضياً للقضاة ـ ومفتيا عاما للمملكة, ورئيس لجنة إعادة إعمار قبة الصخرة المشرفة بالمسجد الأقصى. كما كان رئيسا للجنة البرلمانية التي عُهد إليها بالوصاية على العرش قبل تسلم المغفور له الملك الحسين مهامه الدستورية, إضافة لعضويته فى كثير من اللجان المهمة.
وعُرف عن الشنقيطي تصديه لقوى الاستعمار الغربي المتسلّطة، وكانت لديه رؤيا لبناء نوعٍ من نهضة وطنية مرتبطة بالبعد الروحي, المتمثلة في أحكام الشـريعة الإسلامية السمحة، وتجديد عقلية الإنسان وتطوير واقعه الاجتماعي، حيث كان جامعاً ما بين اللّين ولطف المعشـر من جهة، والحزم والشدة من جهة أخرى.
والشيخ محمد الأمين الشنقيطي هو نجل الشيخ محمد الخضر بن مايأبى الشنقيطي, فوالده العلامة المحدث الشهير وأول قاض للقضاة فى الدولة الأردنية, وصاحب المؤلفات العلمية النافعة, وأحد أعلام الشناقطة- في بلاد شنقيط (موريتانيا).
ولأهمية هذه الشخصية ؛ أصبحت رمزاً من رموزالأردن والأمة العربية والاسلامية فقد قام القاص والصحفي جعفر العقيلي بإعداد كتاب قيم عن هذه الشخصية المتفردة بالإنجاز والتجديد وملاحقة ركب التحضر.
وكان الإعداد لهذا الكتاب ليس بالسهولة التي نتوقعها!! لأن المراجع عن هذه الشخصية قليلة ومشتتة!وقد استمرمعد الكتاب بالعمل لإتمامه مدة ثلاث سنوات, حيث صدر الكتاب في عمان عام 2016.
أقسام الدراسة
ويُقسم الكتاب إلى قسمَين: الأول دراسة وافية للجوانب المختلفة في حياة محمد الأمين الشنقيطي. والقسم الثاني حوارات مع الشـيخ أمين الشنقيطي، ومقالات له وعنه، وقصائد مهداة إليه، وكتابات عن تاريخ عائلته.
إضافة إلى ملحق للصوَر والوثائق وسيرة ملخصة لحياة الشيخ الشنقيطي، ومراسلاته والأوسمة الممنوحة له.
من بلاد شنقيط
وينتمي الشنقيطي إلى عشـيرة جمعت بين العلم والزعامة في بلاد شنقيط بالمغرب العربي، والتي تُعرف في الوقت الراهن بجمهورية موريتانيا الإسلامية.
ويغْلِبُ لقب «الشنقيطي» على معظم المتحدرين من قبائل بلاد شنقيط وعشائرها، ولو كانوا من عشائر مختلفة.
أما لقب «الجكني» فقد عُرف به الشـيخ محمّد الأمين نسبةً إلى اسم قبيلته التي تُعَدُّ من كبرى قبائل البلاد. وقد أسهم هذا المحمول التاريخي، في تكوين وعي الشـيخ محمد الأمين وبلورة شخصيته متأثّراً بوالده الذي كان من قادة البلاد، خصوصا وأن محمّد الأمين عاش حياته وتوفّي خارج بلاد شنقيط.
وفي تناول الباحث لأثر مسيرة الأب في حياة الابن، يوضح أن الشيخ محمد الأمين أدرك من خلال مرافقته الدائمة لأبيه وسفره معه إلى فلسطين والعراق ودول الخليج والهند وتركيا وسوريا ومصـر في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، خطر التآمر الاستعماري على المنطقة، وتصدّى له بما أوتي من قوة، مؤمناً بأهمية وحدة الأمة الإسلامية وتكاتفها في مواجهة الاستعمار.
الحنكة السـياسـية
وقد نشأ محمّد الأمين المولود في بداية القرن الماضي في أسـرة تميّزت بالعلم الجمّ، ومكارم الأخلاق، إذ كان والده الشـيخ محمّد الخضـر، مثالَ العالم التقيّ الورع، المجاهد بكلّ غالٍ في سبيل رفعة الأمة الإسلامية، وصاحب الشخصية المؤثّرة التي تنطق بالحكمة، وتتحلّى بقوة البأس والصبر والحنكة السـياسـية.
في أول عهد الإمارة
وفي مطلع شبابه عمل محمّد الأمين الشنقيطي كاتباً في المحكمة الشـرعية في عمّان سنة 1929، ثم عُين قاضياً في السلط (1938)، ثم في معان (1941)، ثم في إربد (1942)، وظلّ في القضاء حتى سنة 1945 حينما عُين مفتياً لإمارة شـرق الأردن، ثم تولّى منصبَي قاضي القضاة ووزير المعارف في أول حكومة تشكّلت في عهد المملكة الأردنية، وأُسند المنصبان أو أحدهما إليه غيرَ مرة!!! في التشكيلات الحكومية اللاحقة حتى مطلع الستينيات من القرن العشـرين.
أما فترة الخمسـينيات فقد شهدت تبلور شخصية الشـيخ محمّد الأمين وتطور خبراته، ما أسهم في اضطلاعه بدورٍ محوريّ في عدد من القضايا الساخنة على المستوى الوطني.. إذ بُذلت الجهود لمنع قيام وطن قوميّ لليهود على أرض فلسطين!!وتصاعدت وتيرة الدعوة إلى التمسُّك بالقومية العربية والدفاع عنها لمواجهة خطر الاحتلال الإسـرائيلي الذي يتهدّد الوطنَ العربي برمّته.
قاضي القضاة ووزير المعارف
وقد ساهم الشنقيطي عبر تولّيه رئاسة الهيئة العلمية الإسلامية في تلك الفترة السابقة في توضيح سماحة الإسلام ووسطيته، كما ساهم عبر رئاسته اللجنة الخاصة بإعمار المقدسات الإسلامية في الحرم القدسـي الشـريف تحت الرعاية الهاشمية، وفي حماية المقدسات الدينية وصيانتها والحفاظ عليها، وإلى جانب ذلك كان أحد الذين تولّوا رئاسة المؤتمرَ الإسلامي العام.
اليد اليمنى للملك المؤسس
أما الوثائق الهاشمية في مطلع الأربعينيات فتشير إلى دور للشـيخ محمّد الأمين الشنقيطي في مهمات وطنية وقومية جليلة، مثل الوحدة مع سوريا، إذ كان يؤدي دوره بتكليف أو بتوجيه من الأمير عبدالله (الأول) ابن الحسـين، وكان بمثابة اليد اليمنى للملك المؤسس في حلّه وترحاله، وكان الملك يجلّه، ويقدّمه في الصلاة، ويستشـيره في المهمات.
قارئ ومثقف
وشخصية الشـيخ محمّد الأمين تميزت بسمات عديدة من قيادية وإنسانية، وقد أجمع الذين عرفوه وعملوا معه وعايشوه على مدار سنوات عمله داخل الأردن وخارجه، بأنه رجل ذو علم وخلق، وكان يتمتع بثقافة واسعة واطلاع كبير، إذ تَفتَّحَ وعيه على مكتبة كان أسسها والده العالِم الشـيخ (محمّد الخضـر) خلال فترة إقامته في مكة، وكانت تحوي كتباً من عيون الأدب والفقه والسـياسة والتاريخ، وقد أضاف إليها محمد الأمين نفائس الكتب قبل أن يوصي بها إلى الحرم النبوي الشـريف ومكتبة الملك عبدالعزيز.
وفي القضاء كان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي أول من شغل منصب قاضي القضاة بعد أن انتقل الأردن من عهد الإمارة إلى عهد المملكة، كما كان والده أولَ من شغل هذا المنصب في عهد الإمارة.
ويُعدّ الشنقيطي المؤسِّسَ الحقيقي لدائرة القضاء الشـرعي في الأردن، فقد شارك في وضع القوانين والأنظمة فيها، كما شارك في وضع الدستور الأردني في عهد المغفور له الملك طلال بن عبدالله.
وخلال مسـيرته في القضاء، قام الشـيخ محمّد الأمين بتسـيير الدوائر الشـرعية والأوقاف والزكاة بشكل حثيث وبحرصٍ على التطوير، كما شهدت المحاكم في عهده تطوراً في أنظمتها الداخلية لتسهيل عملها وتيسـير قيامها بمهماتها، إذ أصبحت وحدةً واحدة متّصلة الأجزاء ومترابطة الأوصال، وفي تلك الفترة، سُنَّ قانون خاص لرسوم المحاكم الشـرعية، وقانون لحقوق العائلة وُضع موضع الدرس والاجتهاد في الرأي، لإعادة العمل به في المحاكم الشـرعية اعتماداً على ما يراه الأئمة في ذلك العصـر.
التربوي الكبير
أما في الجانب التربوي، فيؤكد الكتاب من خلال الوثائق والمراسلات والخطابات أن الشيخ محمد الأمين كان يدْرك أنّ التربية بمفهومها الشامل تشكّل أهمّ ركائز المجتمع، ومن خلالها تشكّل المجتمعات خصوصيتها وتبني حضارتها، وقد آمن بأن المنظومة التربويّة تقوم على عدد من العناصـر تتبادل التأثير في ما بينها، لذا أَولى العناية الفائقة لهذه العناصـر، وعلى رأسها اختيار المعلمين الأكْفاء، والنظر بعناية إلى أحوال الطالب، واستحداث قوانين وتشـريعات تضبط سـير العملية التربوية.
وقد اختير الشنقيطي عضواً في مجلس الأعيان الثالث (1/9-31/10/1951)، جامعاً بين عضويته في هذا المجلس الذي تشكّل زمنَ وصاية الأمير نايف بن عبدالله على العرش، وبين تعيينه قاضياً للقضاة وعضواً في مجلس الوزراء في حكومة توفيق أبو الهدى التاسعة التي تشكّلت في 8/9/1951، والتي كانت أول حكومة في عهد الملك طلال بن عبدالله. كما اختير عضواً في مجلس الأعيان الرابع الذي تشكّل في 1/11/1951، وبقي فيه إلى أن صدرت الإرادة الملكية السامية بقبول استقالته منه في العام 1955.
لكنه أعيد عضواً في مجلس الأعيان السادس (1/11/1959-28/11/1962)، وبقي عضواً في المجلس نفسه الذي أعيد تشكيله في 29/11/1962.
سفير في السعودية
وفي العام 1963تم تعيينه سفيراً للأردن في المملكة العربية السعودية.
فقد كان الشنقيطي من كبار مشاهير الدبلوماسـيين العرب، وظلّ مثالاً في الحرص والنشاط والمثابرة، ليسطر بذلك صفحاتٍ مَجيدة في كتاب العظماء الذين خدموا بلدهم بلا تقاعس أو كلل.
ولقد أرادت الحكومة الاردنية من خلال تعيينه سفيراً لها في السعودية، أن تستفيد من حنكته وخبرته في عهد المملكة التي بدأت تشهد إصلاحاً وعمراناً واستقراراً وعلاقات أخويّة مع الدول جميعها، وبخاصة الجارة الكبرى المملكة العربية السعودية.
منذ الصباح الباكر!
وقد عُرف الشـيخ الشنقيطي خلال عمله الدبلوماسـي بالحركة الدائبة والنشاط غير المحدود.. إذ يكون من ساعات الصباح الأولى على رأس عمله، يستقبل الناس من دون سكرتير أو حاجب أو حتى حارس، يستمع إليهم ويحلّ مشكلاتهم.. وفي المساء يقوم بزيارة الأصدقاء والأهل والزملاء في العمل الدبلوماسـي، ويحرص على حضور مناسباتهمو يشاركهم أفراحهم ويواسـيهم في أحزانهم.
وعلى الرغم من كثرة مشاغل الشـيخ ومسؤولياته خلال تولّيه السفارة، إلا أنه ظلّ حريصاً على التواصل مع علماء الأمة والاستفسار عن مسائل عقدية وفقهية وفلسفية، رغبةً في الاستزادة والمعرفة، وللتيسـير على الناس في شؤون دنياهم وإزالة اللّبس في قضايا تشغلهم، وكان له حضور كبير في صدر مجالس العلم والفكر.
ظلّ الشـيخ الشنقيطي في منصبه حتى العام 1977، ثم قرر التقاعد والاستقرار في السعودية التي احتضنت والده من قبل، وفيها نشأ ودرجَ أولى خطواته في سلّم الحياة، لذلك شعر بالارتياح لعودته إلى مسقط رأسه، قريباً من الحرم النبوي الشـريف، ما مكّنه من الانقطاع للعبادة والاستزادة من العلوم الدينية.
واستقرّ الشـيخ في المدينة المنورة بعد تقاعده، وأقام فيها حتى توفّاه الله يوم 13/1/1990 بعد أن أوصـى بثلث ماله للفقراء.
شنقيط بلد المليون شاعر
وقديماً اطلق على موريتانيا لقب «بلاد المليون شاعر» لأول مرة في تحقيق صحفي أجرته مجلة «العربي» الكويتية في نيسان عام 1967.
ويعتبر مصدر هذا العنوان الذي لقي زخماً إعلامياً كبيراً اندهاش زوار البلاد بفصاحة الموريتانيين وتضلعهم من اللغة العربية، وخبرتهم بالشعر نظماً وإنشاداً.
وقد أثار هذا الأمر اهتمام العديد من الباحثين وعزّز دور «العلماء الشناقطة» الذين هاجروا إلى المشرق خلال القرون الماضية.
ويُعتبر الشعر الفن الأول بين الموريتانيين وأغلب سكان البلاد من متذوقي الشعر وناظميه. لم يتجلَ ذلك في الناحية الفنية والإبداعية فقط، بل إن الشعر كان الوعاء الذي سهّل للموريتانيين الأوائل حفظ العلوم الشرعية والسيرة النبوية، وتاريخ العرب وأنسابهم في أغلب «محاظر البلاد» (الجامعات العلمية البدوية) التي تخرّج منها أشهر علماء شنقيط (منطقة في موريتانيا) تلك التي تمكنّت من إرساء منهج تعليمي خاص يقوم جانب أساسي منه على دراسة العلوم الشرعية واللغوية عبر الشعر!!.
