كتاب

الاقتصاد غير الرسمي

ذات يوم وقبل ما يقارب تسع سنوات قام شاب تونسي باضرام النار في نفسه احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه، وللتنديد برفض السلطات للشكوى التي قدمها بحق شرطية صفعته أمام الملأ،وعلى أثر وفاته بعد عدة أيام اندلعت أحداث ما أصبح يعرف بالربيع العربي والتي امتدت لتشمل مختلف الاقطار العربية وما زالت احداثها تتفاعل حتى اللحظة،كان لا بد من التذكير بهذه المقدمة لندرك اهمية ما يعرف بالاقتصاد غير الرسمي او اقتصاد الظل او الموازي او غير المنظم والذي يضم عادة مجموعة كبيرة ومتنوعة من النشاطات الاقتصادية التي تعمل بشكل غير قانوني ودون الحصول على التراخيص من السلطات الرسمية،ومصطلح غير القانونية لا يعني ان هذه النشاطات غير شرعية او انها انشطة اجرامية بل يقتصر على عدم مراعاتها للقوانين التنظيمية الخاصة بممارسة الاعمال المختلفة داخل الدولة، مما يؤشر الى ان هناك نشاطاً اقتصادياً يستند إلى قواعد غير تلك التي تضعها الدولة وتطبقها.

وعملياً لا تكاد تخلو دولة من دول العالم من الاقتصاد غير الرسمي الا ان نسبته اقل في الدول المتقدمة حيث تبلغ حوالي 15% من الناتج المحلي الاجمالي، في حين يشكل القطاع غير الرسمي،حسب تقديرات البنك الدولي، نحو ثُلث إجمالي الناتج المحلي في الأسواق الناشئة والبلدان النامية، بالإضافة إلى أن نحو 70% من العمالة في هذه البلدان يعملون بصفة غير رسمية، وتتفاوت التقديرات حول حجم القطاع غير الرسمي في المملكة وفقاً لمنهجية القياس او سنة التقدير، وهذا متوقع نظراً لطبيعة القطاع غير الرسمي،ويمكن اعتماد نسبة تتراوح بين 20-25 % من الناتج المحلي الاجمالي وعمالة تصل نسبتها الى حوالي 40%.

تتنوع النشاطات في ظل الاقتصاد غير الرسمي لتشمل سوق العمل مثل العمال غير الحاصلين على تراخيص عمل وسوق السلع والخدمات مثل الباعة والحرفيين المتجولين اضف لذلك سوق المال والذي يوفر التمويل لهذه النشاطات بما في ذلك المرابون والجمعيات بين الزملاء او الاقارب، وبغض النظر عن هذا التنوع هناك اسباب مشتركة تؤدي الى انتشار الانشطة غير الرسمية في الاقتصاد من أهمها تعقيد الاجراءات الحكومية وارتفاع كلفتها المادية والزمنية وتفشي الفساد،كما ان تفشي البطالة وعدم قدرة الاقتصاد المنظم على توليد فرص العمل المناسبة يدفع بالكثيرين نحو العمل في القطاع غير الرسمي لتأمين قوتهم،أضف لذلك تدني مهارات بعض العاملين، وهناك ايضاً من يلجأ للقطاع غير الرسمي بهدف تجنب الضرائب والرسوم ويشتد هذا التوجه عند زيادة الضرائب ورفع نسبها،كما لا ننسى ايضاً ان التطورات التكنولوجية ساهمت في ايجاد فرص عمل لم تكن متوفرة سابقاً مثل التجارة عبر الانترنت وأنشطة الشباب المبادرين في مجال الشركات الصغيرة والناشئة.

يقوم القطاع غير الرسمي بدور مهم على المستويين الاقتصادي والاجتماعي فهو يساهم في تخفيف حدة البطالة واثارها الاجتماعية والاقتصادية،كما يساهم في توفير سلع وخدمات باسعار ملائمة لمحدودي الدخل،وفي نفس الوقت يشكل رافداً لتعزيز الاقتصاد الرسمي، فأثر كثير من النشاطات الاقتصادية غير الرسمية ينعكس بشكل او باخر على القطاع الرسمي عبر مجموعة من العلاقات المتداخلة تشمل المواد الاولية والقوى العاملة وغيرها. الا ان كل هذه المزايا لا ينبغي ان تصرف النظر عن العديد من المصاعب والمشاكل التي يعاني منها أو يتسبب بها القطاع غير الرسمي.

فالعاملون في هذا القطاع غير محميين وكثيراً ما يتعرضون للاستغلال بمختلف اشكاله، وامكانيات التطور والنمو تبقى محدودة،كما أن رفع مستوى الانتاجيه يواجه العديد من المصاعب خاصة مع عدم توفر فرص للتدريب وتعزيز المهارة،كذلك فان امكانيات الحصول على تمويل تبدو ضئيلة،وامكانيات النفاذ للاسواق لا تكاد تذكر، وتظهر أبحاث أجراها البنك الدولي «أن الشركات غير الرسمية تحقق ربع الإنتاجية التي تحققها شركات القطاع الرسمي، وأن إنتاجية الشركات العاملة في القطاع الرسمي التي تواجه منافسة غير رسمية لا تتجاوز ثلاثة أرباع إنتاجية الشركات التي لا تواجه هذه المنافسة»،كما ان هذا القطاع يؤثر على القطاعات الرسمية التي تنتج سلعاً او تقدم خدمات مشابهة بحيث يقلص ربحيتها، اضف لذلك فان قرصنة حقوق الملكية تشكل عامل قلق في كثير من الاحيان،وعلى المستوى الكلي يبدو اثر القطاع غير الرسمي في التلوث البيئي والصحة العامة وحرمان الخزينة من بعض الضرائب والرسوم المستحقة،كما انه قد يتسبب في سوء التخطيط وعدم اتخاذ القرارات المناسبة نظراً لعدم توفر او دقة البيانات والاحصائيات التي تشكل قاعدة لاتخاذ القرارات الاقتصادية وقياس أثرها.

وزير مالية سابق

لا بد ان يتم العمل على رفع سوية القطاع غير الرسمي بحلول غير تقليدية ووفق منظورين متلازمين أولهما تطوير هذا القطاع وتوفير الفرص والامكانيات لنموه وازدهاره وثانيهما العمل على ادماجه ضمن الاطر التشريعية والتنظيمية الملائمة، ومن الضروري ان نعي ان محاولة تنظيم هذا القطاع عبر الاجراءات الرادعة والعقوبات لن تكون فاعلة لان مرونته وقدرته على التأقلم ستؤدي الى ظهوره مرة اخرى باشكال مختلفة ناهيك عن الاثر السلبي والعواقب التي قد تترتب على مثل هذه الاجراءات،وقد يكون من المناسب العمل على تحديث اجراءات تسجيل الاعمال وتبسيطها وتقليص كلفتها المادية والزمنية،وهذا قد يكون ضرورياً لتحسين بيئة الاعمال بشكل عام وبحيث تصبح مزايا العمل ضمن الاقتصاد الرسمي تفوق ما يوفره القطاع غير الرسمي،كما يمكن العمل ايضاً لتدريب العاملين في القطاع غير الرسمي ورفع مهاراتهم،وتمكين المؤسسات العاملة في هذا القطاع من الحصول على التمويل لتطويرها ورفع انتاجيتها واتاحة المجال امامها للنفاذ للاسواق المختلفة،مما يؤدي بها حتما للاندماج ضمن الاطر التشريعية والتنظيمية،واتاحة المجال لايجاد قنوات تعامل بين الشركات العاملة في القطاع الرسمي والجهات الاخرى خارج هذا القطاع.

وقد شهدنا العديد من الاجراءات التنظيمية الايجابية المتعلقة بهذا القطاع مثل ترخيص الاكشاك وانشاء الاسواق الشعبية وواتاحة ترخيص بعض الاعمال من المنزل وغيرها وكان يمكن ان يترتب على هذه الاجراءات نتائج افضل لو كانت ضمن حزمة متكاملة ورؤيا واضحة تشمل ايضاً منح تراخيص مؤقتة او دائمة.أما المبادرات الشبابية فلا بد ان تولى اهتماماً أوسع خاصة ما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات وقد تكون حواضن الاعمال بيئة ملائمة لرعاية هذه المبادرات وصولاً بها الى مستويات متقدمة.

ان التمكن من التعامل المناسب والصائب مع مختلف مكونات القطاع غير الرسمي تترتب عليه نتائج ايجابية تنعكس اثارها على سائر القطاعات الاقتصادية بما في ذلك الحقوق العمالية وكلفة المنتجات وجودتها وامكانيات التطور اللاحقة وتحسين ايرادات الدولة وتمكينها من اتخاذ القرارات المناسبة،كما ان صيانة حقوق الملكية يحسن المناخ الاستثماري بشكل عام ويساهم في توسيع الاسواق والانشطة الاقتصادية مما يشكل قاعدة لنمو تنعكس اثاره على مختلف فئات المجتمع،كما ان ذلك يتيح تحفيز الابتكار وريادة الاعمال ويضمن جودة المنتجات وحماية المستهلكين،ويرى أحد المسؤولين السابقين في صندوق النقد الدولي «أن الربيع العربي كان تذكيراً بأن النمو وحده لا يكفي، وخاصة إذا كانت ثماره حكرا على قلة محظوظة ولم يكن الانتفاع بها واسع النطاق، واعتبر ان وجود قطاع غير رسمي كبير في أي بلد بمثابة إشارة تحذير بأن النمو في هذا البلد ليس شاملا بالقدر الكافي».ولعل من المفيد هنا ان نذكر بتجربة بنك جرامين للاقراض متناهي الصغر وانعكاساته الايجابية على الاقتصاد غير الرسمي في بنغلاديش ودوره في التأثير الايجابي على حياة المواطنين.

تحفيز النمو الاقتصادي والارتقاء باداء الاقتصاد الوطني يتطلب التعامل بايجابية مع الاقتصاد غير الرسمي مع عدم النظر له بشكل ضيق كمصدر محتمل لايرادات ضريبية بل كجزء من الاقتصاد لا بد من توفير الظروف الملائمة لرفع مستواه وتطويره ورفع انتاجيته وتشبيكه مع سائر القطاعات الاقتصادية الاخرى ليساهم في التأثير ايجاباً على النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل وتوزيع ثمار التنمية، ولكي نضمن استمرار هذا النهج لا بد توفير مزيد من الثقة بين الجهات الرسمية وسائر مكونات قطاع الاعمال عبر شفافية السياسات وتبسيط الاجراءات وتوظيف الرسوم والضرائب كحافز للاستثمار وليس كمثبط للمستثمرين ورجال الاعمال،والنظر جدياً في توفير حوافز عملية للنهوض بالصناعات الصغيرة والمشاريع الريادية.