أتيح لي مؤخّراً أن أشارك في أحد المؤتمرات الثقافية في بلد عربيّ شقيق، وقد منحني ذلك المؤتمر فرصة اللقاء بعددٍ من كبار المثقفين العرب، بعضهم ممَّن عرفته سابقاً، وبعضهم التقيت به للمرّة الأولى، وقد كان مدير الجلسة التي تحدّثت فيها عن دور الشعر في مواجهة أزمات الأمّة من أعلام الثقافة الذين يشار إليهم بالبنان، وقد كنت عرفته واجتمعت به قبل أكثر من ربع قرن في إسبانيا، وبالرغم من احترامي لجهوده العلمية والثقافية ولا سيمّا في مجال النقد الأدبي إلاّ أنّه فاجأني بمجاهرته بضرورة النأي بالشعر عن الهموم الوطنية والقومي?ة، وتأييده لدعوة اللاجدوى من كتابة الشعر، وأنّ الشاعر ليس ملزماً ببعث الهمم ولا بثّ الأمل في النفوس ولا استشراف المستقبل ولا غير ذلك. وعند ذلك خيّل إليّ أنّ هذا الذي كان في نظري هرماً قد أخذ يضمحلّ ويصغر في عيني شيئاً فشيئاً حتّى لم أعد أراه.
وفي موقف آخر في ذلك المؤتمر رأيت شاعراً معروفاً من أحد البلدان العربيّة لم يتوقف عن اغتياب شاعرين آخرين من بلده والقدح فيهما من باب الغيرة والتنافس في الشهرة والشعر، ولمّا سمعت منه ذلك شعرت بحزن شديد على ما وصل إليه حال الشعر والشعراء.
ورأيت شاعراً آخر ينسحب من القاعة التي تعقد فيها الندوة الشعرية عندما شاهد تصفيق الجمهور لشاعر آخر تصفيقاً حارّاً وقد غلبت عليه الغيرة واكفهرّ وجهه.
وفي مشهد آخر في المؤتمر ذاته، سألتُ عن أحد الشعراء المشهورين في بلده وقد كان اسمه مدرجاً في سجلّ المشاركين إلاّ أنّه لم يحضر، فسألت عنه فقيل لي إنّه لا يحبّ أن يشارك في ندوةٍ شعريّة يحضرها أو يشارك فيها شاعرٌ آخر معروف من شعراء بلده.
هذه بعض صورٍ ممّا تعاني منه الحركة الثقافية والأدبيّة، وهي صورٌ تبعث على الشعور بالخجل مثلما تبعث اليأس والإحباط في النفس، لأنّ المثقفين والأدباء من الشعراء والكتّاب والقاصّين والمسرحيين وغيرهم هم ممّن يعوّل عليهم في بناء وعي الناس وصياغة وجدانهم وإضاءة طريق التقدّم والنهوض الحضاري لهم، فكيف إذا كان هؤلاء ممّن يعانون آفات الغيرة والتحاسد والتعصب والغيبة والنميمة وغيرها، ويتنكرون لرسالتهم الوطنية والقومية والإنسانية ويتنّصلون منها.
إنّ الثقافة هي البلسم الذي يعالج جراح الأمّة وعللها، فإذا كانت الثقافة ومن يوصفون بأنّهم مثقّفون مصابةً بعلل وأسقام كثيرة، فكيف تكون بلسماً وكيف يمكِن أن يعتمد عليها في معالجة الآفات التي تعاني منها الأمّة؟!
إنّ استمرار الأمّة في التمزّق والتفكك والتنازع والتشذرم والهوان على غيرها من الأمم هو دليلٌ على إخفاق الثقافة والمثقفين والأدب والأدباء العرب في الاضطلاع بأدوارهم والنهوض برسالتهم على النحو المأمول.
salahjarrar@htomail.com
مواضيع ذات صلة