اعتمد العرب قديماً الكيَّ علاجاً لكثير من الأمراض التي لم ينجحوا في علاجها بالدواء، حتّى قالوا في أمثالهم: آخر الدواء الكيّ، وجاء في الحديث النبوي الشريف قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار».
كما نقلت المصادر القديمة قول الراجز:
يُنْقَضُ منّي كلّ يومٍ شيُّ
وأنا في ذاك صحيحٌ حيُّ
والمرءُ يُغْنيه المدى والطيُّ
وآخرُ الداءِ الدويّ الكيُّ
وأهمّ معاني الكيّ ما ذكره الزمخشري في شرحه لمعنى المثل «آخر الدواء الكيّ» قائلاً: «فهذا المثلُ يُضربُ في أعمال المخاشنة مع العدوّ إذا لم يُجْدِ معه اللينُ والمداراة».
والكيُّ كما يلاحظ في استخداماته المختلفة في التراث العربي الطبيّ وغير الطبيّ أنّه يُلجأ إليه لإزالة الداء أو سببه ووضع حدّ للألم، وإن كان الكيّ يسبّب بعض الألم المؤقت، ولم يكن الهدف منه في أيّ يومٍ من الأيام إزالة العضو المصاب بالمرض أو المسبّب للألم، وهذا الأمر ينسحب على التعامل مع العدوّ فآخر العلاج لما يُلْحِقُهُ هذا العدوّ بالمعتدى عليه من الأضرار والآلام هو القضاءُ عليه بالكيّ لإزالة خطره وأضراره وأذاه عن البلد المصاب أو المبتلى به.
أمّا وقد تغيّر العلاج في هذه الأيّام من الكيّ إلى البتر، وصار من أسرع وسائل العلاج عند كثير من الأطباء قلع الضرس بدلاً من الصبر عليه بالعلاج، وبتر القدم أو الساق بدلاً من محاولة علاجها، وغير ذلك من أصناف البتر التي قد تكون هي آخر خيار أمام الطبيب للمحافظة على حياة المريض، إلاّ أنّ هذا الحلّ الجذري الذي يقوم على إزالة العضو المصاب بدلاً من إزالة الداء أو أسبابه، انتقل إلى التعامل مع الأعداء، فبدلاً من أن يعمل المعتدى عليهم على كبح جماح المعتدي ومجابهته، أصبح من الأيسر عليهم أن يقطعوا العضو المصاب بهذا الداء، بالتخلّي عن الجزء الذي احتلّه العدوّ، ولئن كان هذا النهج يصلح في الطبّ إلاّ أنّه لا يصلح في التعامل مع العدوان والاحتلال، فالعضو الذي يُزال بالبتر في عالم الطبّ يمكن أن يتمّ التخلّص من المرض نهائياً بالتخلّص منه، أمّا في حالة الاحتلال، فإنّك إن تخلّيت عن الجزء الذي يحتلّه العدوّ طمعاً في السلام والأمن، فإنّك بذلك تشجّع العدوّ على أن يحتلّ المزيد من أرضك حتّى يبتلعها كلّها، وهذا ما حدث تماماً لأرض فلسطين، فما إن قبل العرب بأن تكون الأراضي المحتلة سنة 1948 أرضاً للاحتلال، حتّى طمع المحتلّون بالمزيد من الأرض وأخذوا يتوسّعون في الاستيلاء على غيرها شيئاً فشيئاً ونحن نتنازل لهم شيئاً فشيئاً، حتّى طمعوا بأراضٍ عربيّةٍ خارج أرض فلسطين.
وقد بات العرب يعالجون الجزء المصاب بداء الاحتلال بالتخلّي كلّياً عن ذلك الجزء، وهم لا يعلمون أنّهم بذلك يزيدون من الداء وانتشاره وخطره.
لذا، فإنّ على الأمّة أن تعود إلى مفهومها التاريخي للعلاج بالكيّ في التعامل مع العدوّ عن طريق مخاشنته والعمل على طرده من الأرض التي احتلّها ظلماً وعدواناً، وإن كان لا بدّ من اتّباع طريق البتر فليعملوا على بتر الاحتلال نفسه لا بتر الأرض العربيّة المحتلّة وإسقاطها من حساباتهم.
salahjarrar@hotmail.com
مواضيع ذات صلة