كتاب

من مستصغر الشرر !

(( ويرددون بعد كل حادث ارهابي أن العنف ليس من عاداتنا وانه سلوك لا يمت لاخلاقنا بصلة بل يجافي تقاليدنا الرحيمة السمحة..)) بعد أن انتهيت من قراءة رواية (( زهور تأكلها النار )) للكاتب السوداني امير تاج السر عن مدينة صغيرة في السودان كانت في أواخر القرن الثامن عشر تعج بالحياة وبالنشاط التجاري قبل أن يرى أهلها الاهوال وقد اجتاحهم فرسان الدعوات الدينية المتعصبة بينهم عدد من ابناء تلك المدينة الوادعة نفسها وأعملوا فيهم ذبحاً وتنكيلاً وسبياً للنساء ! وتذكرت بعض ما في تاريخنا من تناحر باسم الدين وحروب داخلية ضاربة دارت تحت راياته منذ معركة الجمل وحصار مكة وتدمير الكعبة بالمنجنيق وقتل المسلمين للمسلمين حتى على استار البيت الحرام مروراً ولو بعد قرون عديدة بحرب التقسيم الديني التي اججها المستعمر الانجليزي في الهند (1947 – 1948) وصولاً الى ثوار افغانستان لمحاربة الكفار السوفييت بأمرة ودعم الكفار الامريكان ! ثم.. قبل ايام حاول بعض خائبي داعش ترويع مدينتهم السلط بعد اختها الفحيص الفرِحة بمهرجانها وهم الذين لم يستريحوا بعد من رحلتهم المرعبة السابقة باعلامهم السوداء في مدن العراق وسوريا وكان بيننا محتقنون بالكراهية يتمتمون بأن هذا هو الدين الاصيل، وساسةٌ يستنبطون لهم الاعذار وكتاب ترقص البهجة بين سطورهم حين يعلقون على انتصاراتهم حتى وهم يعلمون أن وراءهم قوىً غربية مجرمة لا تحب الاسلام والمسلمين !

لا اتفق مع من يعزو الأمر برمته الى الفقر كجذر لهذا الغضب والى البطالة كمنبع لذاك الحقد نحو المجتمع وكأن الفقراء والعاطلين في كل بلاد الدنيا يجنحون للعنف ضد مواطنيهم أو ضد أهل الموسيقى والرقص وكأنهم السبب ! وأعود لمقولة ((فمعظم النار من مستصغر الشرر)) كحقيقة بسيطة ليست بحاجة الى برهان معقد لكن كثيرين لا يريدون تصديقها ومن الخطر انتظارهم حتى تحدث الكارثة، وحين نتطلع حولنا نلتقط مئات الامثلة من شرارات صغيرة تحولت أو قد تتحول الى نار هائلة، فمثلاً الكراهية المولِّدة للعنف في نفوس اطفالنا في المدارس بسبب مناهج لم تعد اخطارها خافية على أحد حتى في كتب الأزهر نفسه الذي يظنه البعض قلعة الاعتدال الاسلامي! وتتكرر هذه الكراهية على شكل لافتات صغيرة تعلق على الاعمدة عند اشارات المرور تضعها جمعيات غير سرية تعرفها امانة عمان والاجهزة المسؤولة وتعرف من يمولها ولم تجرؤ على ازالتها رغم انها مخالفة للقوانين والانظمة ومنافية لقواعد الاخلاق اذ تخاطب الناس بعبارات ليس المتدينون الحقيقيون بحاجة لها لكنها تستفز مشاعر الآخرين وقد تثير عندهم الرعب والهلع بعدما استعملها الدواعش في شوارع المدن العراقية والسورية التي كانوا قد اجتاحوها، كما ان الكراهية تتجلى في عدم انصياع المسؤولين عن المساجد للتعليمات المتكررة بضرورة خفض مكبرات الصوت حسب المعايير المقررة في قانوني البيئة والصحة فذلك أدعى للخشوع والانصات بل يمعنون في رفعها حتى آخرها لتشكل تلويثاً ضوضائياً ومصدراً للاقلاق النفسي والأذى السمعي..

وبعد.. فلا يجوز اعتبار غض الطرف عن ((الشرر الصغير)) إهمالاً لأنه في كثير من الاحيان تواطؤٌ وشراكة في الجريمة المحدقة.