د. زيد حمزة
في العام الماضي كتبت عن ((الدولة العميقة)) وحاولت أن أوضح ملامحها الاساسية التي تصلح دليلاً مبدئياً لاي محلل يتصدى لقراءة الاوضاع السياسية في بلد ما ولم يخطر ببالي يومئذ أن كاتبا اردنياً هو لورانس التل الذي يعيش في أميركا قد سطر عام 1997 رسالة الماجستر التي قدمها في جامعة اكسفورد عن تاريخ الاردن بين عامي 1955 – 1967 وتحدث فيها بالوثائق عن دور ((الدولة العميقة)) دون أن يسميها بهذا الاسم الذي لم يكن شائعاً آنذاك وإنما اطلق عليها صفة مؤسسة الأمن الوطني Nationual Security Establishm وعرّفها بأنها الائتلاف الحاكم المكون من الملك والديوان الملكي والنخبة السياسية وقيادة الجيش والاجهزة الأمنية وقد أوضحت الدراسة بأن أعضاء هذه المؤسسة كانوا يختلفون احياناً حول الوسائل التي ينبغي اتخاذها للمحافظة على أمن الاردن الوطني ويتنافسون على المناصب الرئيسية في الحكومة لكنهم كانوا متفقين دوماً على الهدف النهائي ألا وهو المحافظة على مؤسسة العرش الهاشمي وحماية وحدة التراب الوطني الاردني، ولم يتورع المؤرخ عن ذكر الأسماء الصريحة التي كانت وراء الوقائع المعروفة أو الخفية ولعبت دوراً بارزاً على مسرح الاحداث في تلك الحقبة الساخنة والمصطخبة من تاريخ الاردن (1955 – 1967) كسمير الرفاعي وبهجت التلهوني ووصفي التل وهزاع المجالي خصوصاً حيال حلف بغداد والعلاقات مع عبد الناصر.
ولو اردنا اليوم تطبيق المفهوم الفضفاض للدولة العميقة في تمرين عملي لا نثير به غضب احد بعينه لوجدناها تتمثل في كثير من بلاد العالم كميانمار والجزائر ومصر وبعض جمهوريات آسيا الوسطى برئيس السلطة التنفيذية سواء كان منتخباً أو جاء عن طريق انقلاب عسكري ثم الجيش والاجهزة الأمنية وحزب الحكومة ورموز العشائر الكبيرة أو العائلات الغنية وطيف عريض من القوى يتمدد ويتقلص حسب مقدار المصالح التي يتمتع بها رموزه فيتجمعون في اوقات الشدة ليدافعوا عن الدولة التي تمنحهم الامتيازات وتسّهل لهم الحصول على المكتسبات ويقاومون اي تغيير ينتقص من منافعهم ومواقعهم.
واذا كانت النظم السياسية الحاكمة في بعض تلك البلاد تعتمد من اجل بقائها في السلطة على قوى البطش والقمع لاسكات معارضيها أو التخلص منهم أو على اصطناع احزاب تتستر بشعارات المعارضة، فانها في البعض الآخر تحقق ذلك بتوسيع قاعدة الدولة العميقة بمزيد من نخبٍ وأفراد تغدق عليهم المناصب والرواتب وتنشىء من اجلهم مؤسسات بيروقراطية لا ضرورة لها ولا نفع، وقد يطال التوسيع احيانا افراد السلطتين التشريعة والقضائية باغداق الامتيازات عليهم تحت ذريعة تحصين العدالة..والشبهة شراء الذمم، كما تولي تلك النظم اهتماما بالغاً بدور الاعلام الخاص الذي يحمل في ظاهره راية حرية التعبير وهو في واقعه يروّج لسياسات الحكومة وقراراتها ويسفّه النقد الموجّه لها بدعوى أنه مغرض هدام.
وبعد.. الا يجد الفساد فرصته الذهبية في هلامية الدولة العميقة ؟ ربما جاء الجواب في حديث لاحق...