كتاب

أم كلثوم.. أغنيات وذكريات!

قالوا إنها سيدة الغناء العربي في القرن العشرين فاذا بها صامدة على عرشه في القرن الواحد والعشرين وتستمر اغانيها تصدح باصفى واقوى صوت نسائي سمعناه في حياتنا وتطربنا في احلى سهراتنا باشجى الالحان، حتى تلك التي مضى عليها مئة عام واكثر!

حين توجهتُ للدراسة في مصر شاباً يافعاً كنا في المجتمع الاردني الصغير نعرف بالطبع المطربة أم كلثوم لكنا على الارجح لم نكن نعرف أن لها في مصر مكانةً أجلَّ واعظم من اي وصف وأن لها عند المصريين قيمةً أعزَّ وأغلى مما كنا نتصور، بل لقد عرفتُ شخصياً وعن كثب كيف تحبها الملايين هناك إذ تتردد أغاريدها في الشوارع والازقة والحواري وتعلو بصوتها العذب راديوات المقاهي وهي تزغرد مثلاً ((الليلة عيد عالدنيا سعيد)) وسط مظاهر البهجة والفرح التي تملأ بالالوان الزاهية كل مكان، وفي الليل عندما كانت تشدو بقصيدة امير الشعراء احمد شوقي ((سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا)) يخشع المستمعون للكلمات الجزلة ثم يتمايلون على اللحن السنباطي وهي تكرر (( أبا الزهراء قد جاوزتُ قدرْي بمدحك بَيْدَ أنَّ ليَ انتسابا)) وعندما تصل الى عنفوان مشاعرها الوطنية وهي تهتف: (( وما نَيْلُ المطالب بالتمني )) كانت توقظهم من هدأتهم الصوفية لتدفع بجموعهم الى معركة تحرير الوطن الذي كانت الجيوش البريطانية مازالت تدنس ارضه. حين اقمتُ في بيت الطلبة الاردنيين في القاهرة كان الطالب المحظوظ باقتناء راديو صغير يحظى كذلك بحب رفاقه لانهم كانوا يتجمعون في غرفته مساء الحفل الشهري لأم كلثوم ليتمتعوا بالاستماع لها حتى ساعات الفجر الأولى، وفي العام الاول لدراستي (التوجيهي) حين انتشر الخبر الصغير المقتضب عن زواج ((الآنسة)) أم كلثوم بالملحن محمود الشريف ضجت المدرسة واهتزت اركانها حين راح تلاميذها كعينّة تمثل مشاعر قلق شعب مصر وفيما يشبه المظاهرة الاحتجاجية يتناقلون الخبر ويتراوح تعليقهم عليه بين الغضب والاستغراب والاستهجان.. والتمني ألا يكون صحيحاً!

لطالما تلهفتُ على حضور حفلها الشهري في مسرح حديقة الازبكية لكن ضيق ذات اليد حال دون ذلك فقد كان ثمن ارخص تذكرة جنيها مصرياً كاملاً (!)، وكانت لهفتي تزداد حين أقرأ عن الحفل وسحر حضورها الشخصي الآسر فيه باقلام كبار الكتاب الصحفيين كفكري اباظة في ((المصور)) ومحمد التابعي في ((آخر ساعة)) ومصطفى أمين في ((اخبار اليوم))، ولم يحقق رغبتي الا أخي الضابط الطيار زياد حين كان المرافق العسكري الخاص لجلالة الملك الحسين اثناء زيارته للقاهرة عام 1956 وكأنه كان يقدم لي هدية تخرجي يومئذ كطبيب فقد اصطحبني الى الحفل الساهر الكبير الذي أقامه الرئيس جمال عبد الناصر لضيفه في نادي الضباط بالزمالك، ولهذا النادي في ذلك الزمان مغزى تاريخي معروف بالأيام الساخنة التي تفجرت بعدها ثورة 23 يوليو 1952 ، وكم كنت مشدوها مبهورا وانا اراقب أم كلثوم من مقعدي القريب في الصف الأول وهي تجلس بين القائدين الكبيرين اثناء الاستراحة تتبادل معهما الاحاديث الضاحكة قبل ان تصعد الى المسرح لتغني اغنيتها الجديدة ((ذكريات)) من تأليف احمد رامي وتلحين السنباطي فتطربنا ايما طرب، لكن.. لم أكن أعلم عندئذ أنني سوف ابقى لسنوات عديدة تلت غير قادر على سماع تلك الاغنية مرة أخرى لأنها باتت تثير في نفسي مشاعر الحزن ولوعة الفقد.. فقد استشهد أخي زياد في نهاية ذلك العام!

لم تكن ام كلثوم مجرد مطربة عظيمة بل شخصية سياسية مؤثرة وحين سمعتها تغني قصيدة حافظ ابراهيم ((مصر تتحدث عن نفسها)) ملكتْ عليّ وجداني الوطني واضاءت جانبا من وعيي السياسي في وقت مبكر، وبقيتْ تهزني من الاعماق وبلغتْ الذروة في ذلك حين كانت ترددها الاذاعات ومحطات التلفزيون في ثورة 25 يناير 2011 وما تبعها من احداث ميدان التحرير في القاهرة، أما مسلسل ((حياة أم كلثوم)) في تسعينات القرن الماضي فلم يعرف العرب في تاريخهم المعاصر لا في مشرقهم ولا في مغربهم مسلسلاً تلفزيونيا حظي بمشاهدة أوسع واشمل منه ولذلك دلالات غزيرة المعنى سياسياً واجتماعيا و.. فنيا. صحيح ان أم كلثوم لم تكن تلحّن اغانيها لكن ملحنيها المعروفين منذ المرحلة الأولى كالقصبجي والسنباطي ولاحقا بليغ حمدي وسيد مكاوي ناهيك عن محمد عبد الوهاب بعد طول انتظار في أغنية ((أنت عمري)) التي ادهش بها العالم العربي في عام 1964 ، كانوا جميعاً يقولون إن لها أذناً موسيقية حساسة تلمس بها مواقع الخلل فتقترح تصويبها، كما ان اتقانها للغة العربية والتحكم في نطق حروفها جعل شعراء قصائدها يتجاوبون معها ويقبلون ببعض التعديلات على كلماتها، ومن اشهر اولئك كان احمد رامي الذي أحبها وهجر الشعر الفصيح الى العامية من اجلها، لكنه عاد لها ولنا بالفصحى في رائعة ((رباعيات الخيام)).

وبعد.. فان أم كلثوم في رأيي ظاهرة لا تتكرر في التاريخ، قد نحب اصواتاً جميلة لمطربات كثيرات غيرها ولكن.. ليست بينهن واحدة يمكن ان تقارن بها أو تحتل عرشها الخالد على الاطلاق!