بقي فهد الفانك مؤثراً في الناس وفي سياسة الدولة حتى رحيله الأسبوع الماضي، فمنذ بدأنا نقرأ له قبل أكثر من أربعين عاماً في صحيفة «الشعب» في عمرها القصير ( 1976- 1977) ثم في « الرأي» حتى الرمق الأخير والى آخر قطرة من قلمه لم يكن ذلك الكاتب، الخلافي لدى الكثيرين، يكتب عموده الصحفي اليومي حول القضايا المتنوعة وبعضها شديدة الحساسية والحرج إلا صريحاً جريئاً مقتحماً لا يحسب حساباً لرضى القراء أو غضبهم ولا ينتظر كلمة شكر يضطر لسدادها بمجاملة ولا كان يخشى سخط المسؤولين عليه حين كان يضغط على مواضع فيهم يعلم أنها توجعهم، فقد كانت أسلحته جاهزةً مشهرة للتصدي لهم وكان قلمه مشحوناً بمعرفة غزيرة غذاها بالدأب على قراءة مكثفة معمقة تؤهله لإنهاء معاركه التي خاضها غير هياب بسطور قليلة موجزة تجعل الخصم يترنح وهو يدافع عن نفسه بكلام مطول لكنه ضعيف الإفهام عاجز عن الإقناع.
كتابتي اليوم عن فهد الفانك ليست مهمة سهلة فلقد لمست على مر السنين بعضاً من سلبياته لكني في نفس الوقت اتفقت مع كثيرين سواي على ايجابياته العديدة لا بل اعترف بأنها مهمة محفوفة بتضارب الأحكام وتفاوت النوايا وتباين المواقع، وإنا هنا لست في معرض الثناء على كاتب ذكي عرفناه ردحاً طويلاً من الزمان يطل علينا في عموده كل صباح بكلمات قليلة ثاقبة تصل إلى قلب الهدف بدقة مذهلة، وذلك لعمري في حد ذاته دليل على جهد عقلي لم تبن عليه يوماً علامات الوهن أو الكلل وكان كافياً من خلال عبارات رشيقة أن يحيل قراءه كلهم أو معظمهم إلى معجبين يشيدون بقدرته ويواصلون قراءته حتى حين كانوا ينقمون على تحليل له يحبط توقعاتهم أو اقتراح يخيب أمالهم ورغباتهم فيتهمونه بأنه «يسبح ضد التيار» أو يساير الحكومة، تماماً مثلما كانوا يبتهجون وتنشرح صدورهم حين يعبر عن احتجاجهم على قرارات حكومية مسيئة لهم وللوطن.
من ذا الذي يمكن أن ينكر أن عقيدته القومية البعثية التي قيل انه غادرها أو غادرته، وان تاريخ نضاله السياسي الذي يدين أول ما يدين.. مضطهديه(!) قد صنعا جزء ًا كبيراً من شخصيته العنيدة لكنهما بعد ذلك لم يسيطرا على نمط تفكيره وطريقة تعبيره ولا تحكما في إبداعه الصحفي فقد تحرر مبكراً من قصة الأطر والثوابت والشعارات ناهيك عن الأوامر والتعليمات الحزبية وانطلق يغرد لكن ليس خارج السرب بل في قلب التيار العريض، واستقل بآرائه لا نكوصاً ولا جبناً بل كما فسر أكثر من مرة: فهم متجدد مع تغيرات العصر وتطورات السياسة العالمية حتى لو اختلف في ذلك مع أفهام الآخرين الذي كانوا ذات يوم شركاءه أو رفاقه أو حلفاءه أو لو رأى فيه بعضهم واقعية مؤلمة تسربلت بمهنية عالية أدركوا بعد حين أنه لم يطمح من ورائها لكسب الشعبوية أو أوسمة التقدير، وبعض آخر رأى ذلك انحرافاً عن المبادئ منافياً لمشاعر وآمال الناس..
ازعم اليوم أني أدركت إثر انعطافة حادة في حياته بعض السر في مواقف فهد الفانك التي لم تنسجم مع ماضيه ولا مع آرائه الصادمة التي حيرت الكثيرين ولم يكن هو نفسه في حيرة منها، ولا أقول ذلك كي ابررها أو أؤيدها أو اتفق معه بشأنها فلطالما اختلفنا حول قضايا مهمة كالتامين الصحي الوطني الشامل لكن دون اشتباك عبثي ودون التلويح بتهمة التنكر للعدالة الاجتماعية، ولطالما تبادلنا وجهات نظر مشتركة مضمرة في أحداث العراق وسوريا أو في سجالات خضناها مع الآخرين بشأن المفاعل النووي مثلاً وربما تبعاً لذلك تلاقت جهودنا وأفلحت دون أن نجتمع أو نتفاهم على قناعة معينة.
عندما التقينا صدفة قبل بضع سنوات، حسن النابلسي وفهد الفانك وأنا، في جلسة حميمة مبتورة وفي دواخلنا ما هو أعمق من مجرد كتاباتنا في « الرأي» ضحكنا كثيراً ونحن نبوح بذكريات قديمة سحقت فيها بعض بداياتنا حين اضطررنا لإخفاء دفاتر أسرارنا الأولى خوفاً من « التفتيش» وما يعقبه من هول، وكنت الأقل معاناة بين الثلاثة!.
وبعد.. كعادتي، لا أحب النعي ولا أجيد التأبين فكلاهما في رأيي يجنحان للنفاق، وربما تشابهت في ذلك مع راحلنا لكني وجدت نفسي راغباً لا مرغماً على تسجيل هذه السطور القليلة في عزاء مستحق لقيمة أردنية ينبغي ان نحجز لها مكانها المرموق في تاريخنا الصحفي.
مواضيع ذات صلة