كتاب

حنين



تمطّى بكسل، تثاءبَ، تحسَّسَ ذقنَه ليدركَ أن لابدّ من الحلاقة، فشعرَ بانقباضِه الصّباحي المعتاد يزيدُ ويتصاعد، فهذا الإيقاعُ الرّتيب لأيّامه يكادُ يفتكُ به « لا بدَّ من كسرِ هذه الرّتابة بأيّ طريقة...» عبارةٌ كان يردّدُها كلَّ صباح دون جدوى. رمقَ ملامحّه في المرآة، فقاومَ رغبةً في لكمها... تّجهّمه الدّائم أطفأ ما تبقّى من حياةٍ أو حيوّيةٍ في وجهه، إذ صارَجزءاً أصيلاً من ملامحِه حتى حفرَ بصمته على شخصيّته كلّها، لكن لم يكن يملك إلا ذاك الخيار، إذ تذكّر كيف كان منذ صغرِه يقلّدُ والدَه وجَدَّه وأخوالَه في رسمِ الكشرة الرّجوليّة على وجهه إشارةً إلى الحضورِ والقوّةِ والهيبة... حتى بات يوقنُ أنَّ فعلَ الابتسامِ هو ملمحٌ أنثويٌّ ليس إلا.

استعدَّ وخرجَ أخيراً متوّجهاً إلى عمله، وفي اللحظة التي صعدَ فيها إلى سيّارته، ولمحَ جارَه المُسن يقفُ على الرّصيف وهو ممسكٌ بيدِ حفيده بانتظار حافلة المدرسة، تمتمَ: « اصبحنا واصبحَ الملكُ لله، كُتبَ عليّ أن أصادفَه اليو م أيضاَ... عجوزٌ تافه متعالٍ، حييّته ذات مرّة فلم يرد عليّ... وكررَّ عبارتَه الأثيرة: في كلِّ صباحٍ، أقرّرُ ألا أغضبَ وأقضي يوماً هادئاً، ثمَّ ألتقي ببعضِ الأغبياء الذين يجعلون ذلك مستحيلاً «

ليُكملَ بحنق: « وها هو أوّلُ الأغبياء... « وأفاق فجأةً من تداعياته الغاضبة السّاخرة على جلبةٍ ما أمامه، حين بدا جارُه يميلُ ويكادُ يقع وهو يحاولُ مساعدة َالصّغيرِ على استقلال الحافلة... فقفزَهومنطلقَاً كالصّاروخ نحو الرّجل ليمسكَ به وبالطّفل حتى مرَّ الموقفُ بسلام... هنا، صحا على تصفيق الأطفال وشاهدَ أيديَهم الرّقيقة تلوّحُ له بفرح فيما تحرّكت الحافلةُ بعيداً... ولم يعلم لماذا أحسَّ بخفقةٍ تتدفّقُ في عروقه الهامدة... ثمَّ ليجدَ الجارَ يقتربُ منه،فيسلّم عليه بحرارة وهو يكيلُ له عبارات الامتنان، ردَّ عليه باقتضاب، ليكتشفَ أنَّه يعاني من ضعفٍ في السّمع، ممّا يبرّرُ عدم ردِّه للتّحيّة في زمنٍ مضى.

مضى إلى عملهِ ساهماً، وقد قرّرَ إجراءَ بعضِ التّغييرعلى الرّتابة التي تكادُ تفتكُ به،مُقرّرَاً أن يجرّبَ ويتسلّى... فكان المخلوقُ الثاني الذي يلتقيه،المراسل... الذي لا يذكر أنّه تبادلَ معه منذ سنواتٍ جملةً مفيدةً واحدة، فوجدَ نفسه يتناولُ منه فنجانَ القهوة ليقولَ له: « شكراً... تسلم إيدك يا طيّب « وألجمتُه الدّهشةُ وهو يرى المسكين يفتحُ فمَه من الذّهول ويتلعثمُ بالرّدِ ليمضي بخفّةٍ غير مألوفة.

توافدَ على مكتبه بعضُ المراجعين، فوجدَ نفسَه يرحّبُ بهم، ثمَّ ليطلبَ من كبارِ السّن منهم الجلوسَ، وينجزَ المطلوبَ بسرعة ٍوبأساريرَ منبسطة... حتى سمعَ إحداهنّ تهمسُ لأخرى: « يبدو أنّه موّظفٌ جديدٌ هنا « اقتربَ منه أحدُ الزّملاء ليخبرَه باضطراره للمغادرة لأنّه سيصطحبُ والدته إلى الطّبيب، وفيما كان يتلقّى مثلَ تلك الأحداث بوجهٍ محايد دون تعليق في وقتٍ مضى، وجدَ نفسَه يقول: « ألفُ سلامةٍ عليها، ابقَ معها بقيّة النّهار إن شئت، أنا سأقومُ بما يلزم هنا، لا تقلق يا رجل... « فغادر زميله المكان وهو يتلفّتُ خلفَه بحيْرةٍ كأنَّما لم يصدّق ما سمعَ للتوّ

وسارَ هو على هذا النّهج لأيّام، حتى بدأ يلمحُ الموّدة في عيونِ الآخرين، وصارَ الجيرانُ يحيّيونه بدفء، كما صارَ يُدعى لتناولِ الشّاي أحياناً في مكاتبِ الزّملاء

وصارَ يحلقُ ذقنه يوميّاً أمامَ مرآته إيّاها وقد فارقته تلك الشّهوةُ إلى لكمها... لينهيَ المهمّةَ وهو يدندنُ ببعضِ الأغنيات، ثمَّ ليرفعَ صوتُه عالياً حين يشعرُ أنّه تمكّن من أداء أحدِ المقاطع... الظّاهرة الطّارئة العجيبة التي كانت تدفعُ أفرادَ اٍسرتِه لتبادلِ الابتسامات.

لكنَّ سؤالاً واحداً يطلُّ أحياناً فيزعجه: هل فقدَ شخصيتَه القديمة؟ ماذا عن مقتضيات الرّجولة والقوّة والشموخ ؟ هل بدأ يفقدُ هيبتَه بين المحيطين ؟ هذا أمرٌ كفيلٌ بأن تتململَ لأجلِه أرواحُ الأجدادِ والآباء... فينتابُه في تلك اللحظة حنينٌ إلى الحالة التي كان عليها.

لكنَّ أطفالَ الحافلة الذين صاروا يلوّحون له كلَّ صباح ويملؤون روحَه بالغبطة، وتحيّاتِ الجيران، وحفاوةَ الزّملاء، وابتسامةَ المراسل... جميعَها تدفعُه لقمعِ ذلك الحنين.