في الاسبوع الماضي جلسنا وجها لوجه أمام أنفسنا ونحن في الواقع نواجه سنغافورة.. اكثر من ألف اردني واردنية حضروا بحماس الى المركز الثقافي الملكي تلبية لدعوة من مؤسسة عبد الحميد شومان ليستمعوا بشوق للدكتور فيليب يو رئيس الوكالة السنغافورية للتنمية الذي يشارك في صنع نهضة سنغافورة الحديثة أو معجزتها كما توصف. لم يقدّم لهم الرجل محاضرة تقليدية طويلة يتثاءبون اثناءها أو يضعف اصغاؤهم عن استيعابها بل تحدث لخمس عشرة دقيقة فقط وترك لهم ما تبقى من الساعتين كي يسألوه أو يناقشوه وهو يرد بلا تلكؤ ودون أن ينتفخ فخراً ببلاده أو يدّعي قدراتٍ لها خارقة، لقد فسّر ما حدث في ستغافورة وركّز كثيراً على أهمية الابتكار الخلاق والبحث العلمي المبدع والاستثمار الكبير في التعليم واصطياد المواهب حد اختطاف اصحابها من مواقعهم في الداخل والخارج ما أدى في فترة زمنية قصيرة للتقدم الذي احرزه شعب صغير حرص ألا ينوف تعداده على خمسة ملايين ونصف وهو يحافظ على نفسه من السقوط في فخ التزايد السكاني المفرط المدمّر الذي مازالت تعاني منه بلاد نامية كثيرة كبلدنا ولاسباب نعرفها تماماً ونعرف كيف نضبطها لكن الأيدي الخفية تضغط على اعناقنا..
اكثر الاسئلة التي انهالت على المحاضر ذكاءً ومضاءً وتطلعاً للمستقبل جاءت من جيل الشباب، ومن الشابات بجرأة لافتة.. صحيحٌ ان كلاًّ يريد أن يسمع الوصفة السحرية ليتناولها جاهزة ويطبقها على الاردن، بمن في ذلك مسؤولون كبار تولوا في السابق مواقع قادرة على التغيير.. ولم يفعلوا ! لكن الصحيح أيضاً والذي ينبغي ادراكه في هذا المقام أن التجارب لا تُستنسخ ولا تُقلَّد بل يمكن استخلاص العبر والدروس منها، وأن لكل بلد خصوصيةً لا يعيها حقاً إلا أهله، أما أنهم بعد ذلك قادرون أو غير قادرين على النهوض به فأمر آخر.. لا يحيّر العارفين منهم!
سالني الضيف وقد تعارفنا في جلسة قصيرة سبقت وقوفه على مسرح الحديث: كم تنفقون على الصحة؟ ولما أجبته بأنه وصل قبل سنوات قليلة الى 9,58 % من الناتج المحلي الاجمالي دهش من الرقم الكبير لكنه لم يفاجئني حين قال انها في سنغافوره لا تزيد عن 4,5 % فأنا بحكم المتابعة مطلع عليها وعلى سواها واعرف أن ما ننفقه في الاردن من أعلى النسب في العالم ومع ذلك فان رضى مواطنينا لا يدنو من مستواه لدى اقرانهم في بلاد أقل إنفاقاً منا! تُرى لو قلت للضيف كذلك إن الانفاق على الادوية وحدها في الاردن يصل الى 30% من اجمالي الانفاق على الصحة اذن لما صدقني أو ظنني على الأقل.. أبالغ! فهو بكل المقاييس انفاق فادح وهدر فاضح واخطر ما فيه انه مستمر ولا يريد المسؤولون أن يواجهوه.. ولا أن ينبههم لاسبابه أحد!
نعود للحديث عن المحاضرة فنعرب عن اعجابنا بتنوع الاسئلة لكننا لم نسترح لبعضها المغرق في الغرابة كالسؤال عن مرض «التوحد» في سنغافورة وقد اضطر الرجل ان يجيب عليه دون إلمام كافٍ به، كما ساءنا بعضها المغرق في «الشخصنة» كالشكوى من ان المسؤولين الجدد عندنا يتجاهلون الانجازات التي جاءت قبلهم ويحبطون أصحابها، فمثل هذه الشكوى عادةً لمن تكون؟!
وبالمقابل وجدنا ان المحاضر الضيف يتجنب الخوض في مناقشة فلسفة نظام الحكم «غير الديمقراطي» الذي يسود بلاده لكنه لم يزعم في لحظة واحدة أنه السر وراء التقدم والنجاح، مع ان بعض الذين مازالوا يحلمون باسطورة المستبد العادل اشتهوا أن يسمعوا منه ذلك! ومن هنا بدا لي أن السؤال الأبرز عن الديمقراطية أو غيابها هو الذي طرحه الدكتور محي الدين توق واستطاع تضمينه بحصافة في تعليق نابع من علمه وخبرته وهو يتحدث بمهنية عالية عن الفساد الذي تقلص كثيراً في سنغافورة حتى رفعها الى مصاف الدول النزيهة في العالم في حين هبط بغيرها الى القعر، وذلك كافٍ لأن يكون وراء النجاح المدوّي في الاولى والفشل المخزي في الثانية! وفي استماعنا للمحاضرة كنا مدركين مسبقاً ان سنغافورة بحجمها الصغير وموقعها الجغرافي المحدود وتاريخها الحديث القصير وبمصالح الدول الاجنبية المتشابكة معها ومن حولها وتلك التي استعمرتها وجلَتْ عنها لكن لم تغب تماماً عن محيطها، لا يمكن اعتبارها النموذج الأمثل لنا أو لسوانا فذلك لا ينتقص من قدرها وكفاحها وأهلية قيادتها التي وصلت مع شعبها وبقرارها الوطني المستقل الى هذا المستوى الرفيع من التقدم.. أما لو زاد الانبهار بها عن حده فقد يحجب الرؤية مثلاً عن مغزى بعض استثماراتٍ لا نستشف ما وراءها مثل صناعة الأسلحة حتى لو قيل إنها إلكترونية تكميلية!
وبعد.. يجدر بمن يسال عن نجاح سنغافورة ألا يغفل السؤال عن دور الثقافة فيها وإلا فانه ينظر لها كشركة ناجحة ومشروع رابح لا كوطنٍ عزيزٍ على شعبه الطموح وفي ذلك لعمري ظلم لها وأي ظلم!
مواضيع ذات صلة