سمعها تتحدّثُ بتأثّر مع إحدى القريبات، ثمَّ ليفهم أنّها بصدد استضافة الطّفلة عندها لأيّام... فامتعض، ولم تكد تُنهي المكالمة حتى رفعَ صوتَه معترضاً لأنّها مسؤوليّة أوّلاً، وأنّه ليس على استعداد للتّضحيّة بهدوء البيت لإرضاء أيٍّ كان !
قالت الزّوجة أشياء عن أفضال السّيدة عليهما، وأنَّ الظّرفَ يستدعي ردّ بعض الجميل... فمضى خارجاً مقرّراً ألّا يقتنع...
وصلَ إلى عمله مقطّباً كالعادة، دون أن يأبه بالعيون التي كانت تتطلّع نحوه بحُنق... همسَ أحدُهم لآخر: « صبحنا وصبح الملك لله، ادفع نصفَ عمري يا رجل وأرى هذا المخلوق يبتسم أو يردّ السّلام، أو يفرد خلقتَه في وجهنا ! « فمطّ الزّميل شفتيه باستهزاء، ومضيا إلى شأنيْهما.
في المكتب، ارتفعَ صوتُه وهو يوبّخ المراسل على تأخّره في إحضار القهوة، ثمَّ عاد وصاحَ مرّةً أخرى في وجه أحد المراجعين... ولم يمر وقت؛ حتى شوهدت إحدى الموّظفات تخرجُ من مكتبه حانقة... لينتهي نهارُ العمل بتقريعٍ حاد وجّهَهه إلى مديرِ مكتبه !
عادَ إلى بيته أخيراً، فوجد زوجتَه تُطعمُ الصّغيرة وهي تُغني لها... ولمّا اقتربَ منهما، رأى الطّفلة تلوّحُ له مبتسمة... فأدارَ وجهه غير مكترث وانشغلَ بتناول الطّعام.
بعد القيلولة، وفيما كان يشربُ قهوته، اقتربت منه الصّغيرة ومعها قلمٌ وورقة لتطلبَ منه أن يرسمَ لها عصفوراً... تأفّفَ... نادى على زوجته بضجر، لكن الصّغيرة أصّرت، فرضخَ للأمر ورسمَ لها وهو يزمجر ما بدا له عصفوراً، ثمَّ ليكتشفَ أنَّ ما رسمَه كان مخلوقاً أقرب للبطّة... رغم ذلك وجدَ الصّغيرة تفرحُ بإنجازِه فتقفزُ إلى حِجْره وتقبّله بامتنان !
في الليلة ذاتها، وخلال استغراقه بمتابعة الأخبار، وجدها تقتربُ منه محاولة إطعامَه قطعة من البسكوت التي كانت تتناوله، رفض محاولاً إبعادها عنه برفق، ثم نسي الموضوع، إلى أن تنبّه أنّها غفت على الأرض عند قدميه... فحملها إلى سريرها وعادَ إلى مقعده ساهماً !
في صباح اليوم التّالي، وفيما كان يهمُّ بالخروج، وجدها تركض نحوه لتطلبَ منه الانحناء... استجابَ على مضض ليجدها تطبعُ قبلةً أخرى على خدِّه !
في المساء، عادت لتقفزَ في حِجْره وبيدها كتاب ملوّن لتطلبَ منه أن يقرأ لها القصّة... فقرأها مُرغماً بصوته الغاضب الأجش، ثمَّ ليُفاجأ بها تحضنُه بيديها الصّغيرتين... ثمَّ لتمضي مبتعدة وقد شغلها أمرٌ ما لم يعرف ما هو !
موضوعُ السّاعة الآن في المؤسّسة التي يعملُ فيها هو عن سرّ التّغيّر في تصرّفاته؛ فقد شوهدَ مبتسماً ذات مرّة... كما لم يعد صوتُه يرتفعُ كالسّابق، إضافة إلى منسوبٍ من الهدوء والدّفء بات يُغلّفُ تعامله مع المحيطين به !
وكثرت التّكهنات، وازدادَ الهمسُ حوله؛ ثمّة من قال إنّه وُعدَ بترقية... وقال آخر إنَّ شكوى قدّمت بحقّه إلى أحد مسؤوليه... ولمّا لاحظوا شروده بين الحين والآخر؛ جزمت إحداهن إنّه واقعٌ في الحبّ !
ولم يعرف أيٌّ منهم أنّه منهمكٌ هذه الأيّام بالحصولِ على قرضٍ لإقناعِ ابنه الكبير بالزّواج... لعلّه يرزقُ بحفيدةٍ تشبهُ صديقتَه الصّغيرة !
مواضيع ذات صلة