بعض الذين يرددون بفرح ان عصر الكتاب الورقي قد أفل ليتربع على عرشه الكتاب الاكتروني ليسوا بالضرورة مبتهجين حقاً باستقبال التكنولوجيا بدعوى الالمام بها بل ربما كانوا ممن كرهوا الكتاب اصلا خشية التنوير الذي يحمله للعالم كما كرهوا الفكر والفلسفة أو الدعوة للحرية وغيرها من قيم عظيمة تحويها الكتب ورقية كانت أم رقمية، ولقد كنت سعيداً بقناعاتي هذه وانا أتجول في معرض الكتاب الدولي في عمان قبل اسبوعين بدعوة كريمة من القائمين عليه للمشاركة في ندوة يتحدث فيها ايضاً النائب المهندس خالد رمضان، وكنت عقدت العزم على ألا أقرأ محاضرة مكتوبة بل أطلق لنفسي العنان للتجوال حول مواضيع شتى يربطها خيط رفيع لا يغيب عن ذهن المستمع الفطن فكان أن تنقلت فعلا بحرية وتلقائية بين التساؤل والمساءلة وإثارة الاذهان والمشاعر في التعرض مثلا للهُوية وهل هي نوع خفي من الانانية وتفضيل الذات على الآخرين أم هي تَباهي القوم في جانب ما على الذين يقيمون في الجانب الآخر من الحدود الجغرافية ؟ ومن ثم الاشارة باصبع الاتهام الى اولئك الذين لا يتورعون عن استغلال الاعتزاز الجميل البريء بالهوية لتحقيق مصالحهم او مصالح حلفائهم وشركائهم حتى لو كانوا في آخر الدنيا! وفي التعرض قبل ذلك وبعده لسؤال القومية والدين وكيف يجوز او يصح رفع كليهما الى مصاف التعالي على القوميات والاديان الأخرى.. وهل من حقنا او حق غيرنا بناء العلاقات الخارجية والسياسية على هذا الاساس العنصري التمييزي حتى لو كان القرار الوطني غائباً أو مختطفاً أو موحىً به؟ ولعل سياساتنا الداخلية التعليمية منها أو الزراعية او البيئية أو الصناعية تخضع لنفس السؤال وإلا خدمت اهدافاً أخرى بعيدة كل البعد عن آمال واشواق الغالبية العظمى من المواطنين، وفي السياق يمكننا تناول فهمنا واستيعابنا لدور العشائرية في حياتنا إذا واجهنا ذلك بصدق وجرأة وصراحة وتساءلنا عن سر تمسكنا بتقاليد قديمة بالية ونحن ندّعي خلاف ذلك حتى اننا نمتثل للثار والجلوة وتجاوز القانون بالواسطة والمحسوبية ونحن نزهو في نفس الوقت بأردية حديثة براقة ظنا منا أنها تغطي على القبح والقسوة والتعدي على حقوق الغير!
أفلا يجدر بنا أيضاً أن نتساءل عن سر الديمقراطية المتعثرة في بلدنا فنقول: هل شعبنا يختلف عن كل شعوب الارض حتى يُصاغ له قانون انتخاب جديد كل بضع سنوات، او حتى يُترك للفشل مرة تلو أخرى على مدى ثلاثة عقود في ان تكون له احزابه الحقيقية فتنشأ باسمه بدلا من ذلك أحزاب تنتفخ وهي تلهث وراء السلطة ثم تنفقيء وتموت دون ان يبكيها احد!
وحين نسأل أنفسنا عن علاقاتنا العربية وعلاقاتنا بدول المنطقة كتركيا وأيران قبل الحبشة وجيبوتي والسودان فأننا نجيب على ذلك بحزن وخجل، فبيننا من لا يزال يصدق ان الجامعة العربية حاضنة تاريخية لهذه العلاقات رغم هزيمتها المدوية في اول مواجهة غير كلامية عام 1948 ولما يمض على إنشائها وسط ترحيب احتفالي ضخم ثلاث سنوات، ورغم انها وصلت بها وبنا الى آخر خلاف محتدم حتى داخل مجلس التعاون الخليجي ؟! وبيننا كذلك من لا يزال يصدق ان مؤسسة ((مؤتمر القمة الاسلامي)) المنشغلة في حروب وحركات تكفيرية تنشئ من اجلها مراكز ومساجد سوف تهب لنجدة مسلمي الروهينغا وهي التي خيبت آمال مسلمي الأقصى على مدى نصف قرن من الزمان !
وتلك على اي حال مجرد أمثلة قليلة من أسئلة كثيرة تترى من كل حدب وصوب وتلح علينا في انتظار اجابات موضوعية واعية ، وتحرضنا على إعمال عقولنا في فهمها وحل معضلاتها حتى لو كلفنا ذلك غالياً فنحن من المدركين تماما أن العلوم واكتشافاتها التي بهرت الأمم عبر العصور كانت نتاج البحث عن اجابات لأسئلة حيرت العقل البشري ، وان الفلسفات العظيمة التي اضاءت ظلام الافئدة بدأت من الشك والتساؤل.
وبعد.. فبالعودة الى موقعنا الذي بدأنا منه هذا الحديث فأننا نرى ان من حق معرض الكتاب علينا أن نتساءل عن موقف الدولة منه وهل مازالت ترى فيه أمراً ثانوياً أو نشاطاً تجاريا يقوم به القطاع الخاص ومن غير الضروري الاحتفاء به والدعوة له وتسليط أضواء إعلامها عليه حتى يؤتي ثمراً جنيّاً، فكثيرة هي تلك البلاد التي تقدر عالياً إقامة مثل هذا المعرض وتعتبره حدثاً وطنياً بارزاً تستعد له ومناسبة معرفية ثمينة تحشد من اجلها طاقاتها ويشاركها في ذلك كل مواطن يجل الكتاب ويقدر قيمته وكل مفكر يسعد به كمنبر رفيع لطرح الأفكار والآراء قديمها وجديدها.. وما المانع لو رافق هذا الحدث كذلك وعلى جوانبه بعض المشاركات الثقافية الاخرى كالموسيقى والمسرح ؟.
مواضيع ذات صلة