د. عيسى أيوب أبودية
أكتب هذه السطور في ذكرى زميلة عزيزة وافتها المَنِيّة منذ وقت قريب بسبب الحساسية المُفرِطة (Anaphylactic shock) نتيجة تناول إحدى الأطعمة. وكي لا يتكرر حدوث هذه المأساة مع أُشخاص آخرين، بات من الواجب عليَّ أن أوضح مفهوم الحساسية المُفرِطة وأعراضها وسبل علاجها، فضلاً عن الإجراءات الواجب اتباعها لتجنُّب حدوثها.
تتشابه الحساسية المُفرِطة مع شقيقتها الحساسية التقليدية في أنها رد فعل مناعي مبالغ فيه تجاه مُسبِّب ما للحساسية. ويمكن لهذا المُسبِّب أن يكون طعاماً أو مادة مُستنشَقة أو ملموسة أو أن يكون مادة سامَّة كلسعة نحلة أو دبور أو دواءً كمضاد حيوي مثلاً.
أما وجه الاختلاف بين الحساسية المُفرِطة والحساسية التقليدية المُتعارف عليها، فيكمن في أنه وعلى عكس الحساسية التقليدية التي غالباً ما تصيب منطقة محددة من الجسم وتكون طفيفة الأعراض، فإن الحساسية المُفرطة تتميز في قدرتها على التأثير بأكثر من جهاز في جسم الإنسان، فتهدد حياته بالخطر، خصوصاً إذا تمَّ الاستخفاف بها أو التعامل معها بشكل خاطئ.
وللحساسية المُفرِطة جذور وراثية وأُخرى بيئية. أمّا ما يدعم نظرية الجذور الوراثية للمرض فهو ملاحظة الأطباء أن احتمال إصابة الفرد بالحساسية المُفرطة تكون أعلى في حال معاناة فرد آخر من العائلة من المشكلة التحسُّسية نفسها. ومما لا شك فيه أن للعوامل البيئية أيضاً أثر مهم في نشوء الحساسية المُفرِطة، إذ ترتفع نسبة حدوثها عند المرضى الذين يعانون من التهاب مُزمن في الجهاز التنفسي، وخصوصاً مرضى الرّبو. كما أن الحساسية المُفرِطة لا يمكن لها أن تنشأ إلا عند تعرض المريض للعامل المُسبِّب لها والمُتواجد في البيئة المحيطة به.
وغالباً ما تبدأ أعراض الحساسية المُفرِطة خفيفة ومشابهة إلى حد ما لأعراض الحساسية التقليدية فتتمظهر على شكل حكّة أو احمرار في الجلد أو سيلان أنفي أو دغدغة في الشفتين أو اللسان أو سقف الحلق، ولكن الأحداث سرعان ما تتطور لتشمل الأعراض أجهزة متنوعة من الجسم. ومن الأعراض الأكثر خطورة للحساسية المُفرِطة والتي يجب التنبه إليها:
1- هبوط حاد في ضغط الدم وانتفاخ مناطق متعددة من الوجه والجسم: ويحدث هذا نتيجة توسع الأوعية الدموية مما يؤدي إلى خروج السوائل من الدورة الدموية إلى أنسجة الجسم المختلفة.
2- أعراض تنفسية: مثال ذلك ضيق في التنفس وقد يكون مصحوباً بسعال أو صفير. وغالباً ما تحدث صعوبة التنفس بسبب انتفاخ البلعوم وسدِّه للمجرى التنفسي، إضافة إلى انقباض العضلات المحيطة بالمجاري التنفسية وما ينتج عنه من تضيق في هذه الممرات.
3- أعراض هضمية: من هذه الأعراض التقيؤ والإسهال والمغص المعوي.
4- الشعور بالاعياء أوالغثيان أو اقتراب الأجل مع احتمال حصول فقدان للوعي.
فماذا إذن يمكن للمريض فعله في حال تعرضه لواحدة أو أكثر من هذه الأعراض؟
أول ما يجدر على المريض فعله هو أن يحقن نفسه بمادة الأدرينالين. ولتسهيل العملية على المريض، تمّ ابتكار حاقن للأدرينالين على شكل قلم سهل الاستعمال يُعرف بِ (Epipen)، إذ يوجه المريض هذا «القلم» إلى منطقة الفخذ ثم يضغط برأس القلم على عضلة الفخذ عامودياً لمدة عشر ثوانٍ، فيتم حقن الأدرينالين أوتوماتيكياً في جسم المريض.
وهكذا يقوم الأدرينالين بالعمل على تضييق الأوعية الدموية المتوسعة، مما يؤدي إلى تقليل فقدان السوائل من الدورة الدموية باتجاه أنسجة الجسم، فتقلُّ الانتفاخات الجسمية ويرتفع ضغط الدم المتدني ليصل إلى مستوياته الطبيعية. من جهة أخرى، يعمل الأدرينالين على ارتخاء العضلات المحيطة بالمجاري التنفسية فيؤدي إلى توسعها وتحسُّن قدرة المريض على التنفس.
إذن، فحاقن الأدرينالين هذا يمتلك القدرة على إنقاذ حياة المريض بالتخفيف من حدة أعراض حساسيته المُفرِطة ومنحه الوقت الكافي للوصول إلى مركز طبي لتلقي العلاج المناسب. وغالباً ما يتضمن العلاج حقن المريض بمادة الأدرينالين وأدوية أخرى، إضافة إلى تسهيل عملية التنفس لديه ومراقبة ضغط الدم وعمل القلب وتعويض السوائل المفقودة عن طريق إعطائها للمريض عبر الوريد. وكم صُدِمتُ وتعجًّبتُ عندما علمت أن حاقن الأدرينالين سابق الذكر غير متوفِّر في الأردن! وكلنا أمل أن تأخذ الجهات الصحية المُختصة قراراً حاسماً وسريعاً بتسهيل استيراده أو تصنيعه محلياً ليصبح متاحاً لمرضى الحساسية المُفرِطة.
أما للوقاية من الحساسية المُفرطة، فعلى المريض أن يكتشف مُسبِّب الحساسية لديه من خلال إجراء فحوصات طبية خاصة كحقن مُسبِّبات الحساسية بالجلد (Skin Prick Test) أو عن طريق فحوصات الدم المعنية في هذا الأمر. وحال التعرف على أسباب الحساسية المُفرِطة، يجب الابتعاد عنها كلياً. فإن كانت طعاماً كالبيض أو الحليب أو المكسرات نجتنبه ومشتقاته كلياً، وإن كانت دواء كالبنيسلين فلا نأخذه مُطلقاً، ونحرص على إعلام الأطباء أو الممرضين بتحسُّسِنا منه قبل القيام بأي إجراء طبي، فأخذ المريض لأدوية يتحسس منها عن طريق الخطأ –ولو بكميات قليلة- قد يشكل خطورة على حياته.
أما أولئك الأشخاص الذين تعرضوا لحساسية مُفرِطة في مرات سابقة، فعليهم توخي الحرص الشديد لأن التعرض للحساسية المُفرِطة من المُسبِّب ذاته لمرة ثانية غالباً ما يعني أن تفاعل الحساسية سيأتي أشد قسوة من المرة الأولى. ولذلك، فإنه يُنصَح من تعرض لحساسية مُفرِطة في السابق أن يحتفظ بحاقن الأدرينالين (Epipen) معه في كل الأوقات تحسُّباً لأي طارئ.
وعلى الرغم من أن الحساسية المُفرِطة قليلة الحدوث والوفاة بسببها أمر نادر، إلا أن عدم توفر حاقن الأدرينالين أو سوء التعامل مع الحالة في المركز الطبي يمكن لهما أن يوديا بحياة المريض. وبناء على ما سبق، فإن الحساسية المُفرِطة تُصنَّف على أنها حالة طوارئ لا يجوز للمريض أو المُعالج الاستهانة بها. ففي بعض الأحيان، يكون إجراء طبي واحد هو الحد الفاصل بين أن يعود المريض سالماً معافاً إلى أهله وأحبائه وبين أن يغادرنا إلى غير رجعة.
أخصائي علم المناعة
[email protected]