قبل أشهر , وقع المؤرخ ماهر عثمان كتابه (الأردن في الوثائق السرية البريطانية) للخمس سنوات الأولى من عهد الملك حسين ...الكتاب شيق ,ومهم جدا ..وحين تقرأ الرسائل التي كانت ترسلها السفارة البريطانية من عمان , تشعر بأن ثقلا استراتيجيا للدولة الأردنية كان يتشكل على مهل .
ما استرعى انتباهي في الكتاب , هو قيام الملك حسين بإرسال (فوزي الملقي) خريج العلوم من الجامعة الأمريكية , وخريج القانون السياسي والإقتصادي من جامعة (كامبريدج) إلى مصر كسفيرفي العام (56) ..لم يتعاط الكتاب بالتحليل المستفيض مع الحدث بقدر ما تعاطى مع وثائق غاية في الخطورة والأهمية , وأغلبها البرقيات التي تصدر من السفارة البريطانية في عمان , وبرقيات وزارة الخارجية البريطانية ...وأنا لست ضليعا في التاريخ , ولكن أكثر من اجتهد وحلل اللحظة التاريخية في حياة الأردن السياسية والإقتصادية هو الدكتور علي محافظة - أطال الله في عمره -...والذي ذكر هذه الفترة وركز عليها في محاضرة له , نشرتها وكالة الأنباء الأردنية (بترا) .
السؤال الذي يطرح نفسه , كيف ينتقل أول رئيس وزراء في عهد الملك حسين , من موقع الرئيس إلى موقع سفير في مصر ؟ ..الملك حسين كان يعرف فوزي الملقي جيدا فهو خريج (كامبريدج) وأمضى سنوات طويلة من حياته في بريطانيا , لدرجة أن رحلة عودته من هناك بعد أن أنهى الدراسة في القانون , كانت متعبة جدا ..وقد استغرقت أشهرا في الباخرة , التي سلكت مسارب معقدة كون الحرب العالمية الثانية كانت تعيق حركة الملاحة .
مصر وقتها كانت في طور تأميم قناة السويس , وأحدث هذا التأميم فيما بعد غضبة كبيرة جدا لدى العالم , فالمصالح البريطانية والفرنسية تضررت كثيرا , لم يكن الملف في يد فوزي الملقي مرتبطا بإدارة سفارة , بقدر ما كان تكليفه بهذا الموقع مرتبطا بالتعاون مع المصريين ومع الرئيس عبدالناصر في فهم المزاج الغربي ..وامتصاص هذه اللحظة بالتحديد , بعبارة أخرى كان الملقي مبعوث الملك حسين للرئيس عبدالناصر ...
نحن نجحنا في التعاطي مع البريطانيين , وامتصاص أزمة تعريب الجيش , والملقي كان يملك خبرة هائلة في فهم العقلية البريطانية , وإدارة ملف الصراع ...لهذا كان على إتصال مع الرئيس عبدالناصر , ويطلعه على وجهة النظر الأردنية في التعامل مع الملف الشائك ...وكان أيضا له دور اخر مهم , وهو تخفيف وطأة المد الناصري على الأردن والمنطقة بالتحديد , فالثورة المصرية ...لم تكن مشروعا مرتبطا بالقطر المصري بل كانت مشروعا قابلا للتصدير إلى العالم العربي , لهذا كان دور الملقي في تلك الفترة استخباريا , سياسيا ...وقد نجح في إبقاء التواصل مع عبدالناصر , ونجح أيضا في نقل صورة الداخل المصري للملك حسين ...لهذا كان هو مفتاح ومهندس تلك العلاقة المتأزمة تارة , والدافئة تارة أخرى ...
لقد سبق تعريب الجيش الأردني , عملية تأميم قناة السويس بأشهر , لهذا كانت لنا تجربة مهمة جدا في امتصاص الغضب البريطاني , وبسط السيادة الأردنية كاملة, والثورة في مصر نظرت لهذه الخطوة , بتقدير كبير , وربما كانت باعثا ومحركا لهم من اجل تأميم القناة ولهذا أرسل الملقي كمبعوث للملك وليس كسفير فقط .
لقد أمضيت اسبوعا كاملا وأنا أقرأ في كتاب (ماهر عثمان) ..وما دفعني للبحث عن سبب هذا القرار , هو سؤال كان يطرقه الرئيس هاني الملقي ذاته حين يتحدث عن والده ..ويتحدث أيضا , عن تلك المرحلة...ويتحدث عن تلك اللحظة من حياة أبيه بالتحديد
التاريخ ليس مادة للسرد , وإنما مادة لتحليل الحدث فمعرفة المسببات , تجعلك تفهم التاريخ ..أكثر من قراءة حدث والمرور عنه ...
ثمة فارق بين سفير ومبعوث , والملقي كان مبعوثا خاصا للملك تحت مظلة السفارة ..
تلك إجابات للرئيس أكثر منها مقالة ..تؤرخ لحدث أو لحظة تاريخية .
Hadi.ejjbed@hotmail.com
مواضيع ذات صلة