عندما نناقش سياسة أميركية ما فلا يعتبن احد علينا إذا كنا غير حياديين وتأثرنا لدرجة أو أخرى بمشاعرنا الغاضبة عليها ليس فقط بسبب مواقفها المعادية لقضية الشعب الفلسطيني ولحركات التحرر التي تخوضها شعوب كثيرة أخرى من اجل العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية بل كذلك بسبب انحيازها حد التعصب لاقتصاد السوق الجشع (ولطبقته المهيمنة) الذي يطال معظم مجتمعات العالم بالجور والتمييز والتهميش ويطال في نفس الوقت شرائح واسعة من الشعب الاميركي نفسه كالاميركيين الافريقيين (السود) والاميركيين اللاتينيين وسكان أميركا الاصليين (الهنود الحمر) وهو نظام اقتصادي لا يستثني بالطبع الكادحين اذا كانوا من البيض رجالاً أو نساءً ! ويشاطرنا هذا الغضب حشد كبير من الناشطين والناشطات في اميركا نفسها سواء في الاكاديميا أو الصحافة أو الاتحادات العمالية أو منابر الفكر الأخرى كما يعيننا على اقتحام حلبات النقاش ليس تلك النصوص الدستورية التي تحمي حرية التعبير بل الأهم ذلك الفيض الغزير من الحقائق والمعلومات التي تصدر في اميركا عن مراكز احصائية وبحثية لا تخجل من محتوياتها مهما كانت معيبة وتتركها بين ايدي الناس حول العالم ليقولوا فيها كلمتهم ، ولعلي أكون اكثر وضوحاً فأحدد حديثي اليوم بالسياسة الصحية وأقرأ آخر تقرير عن الانفاق الصحي في الولايات المتحدة بعد أن لفت نظري بشكل صارخ لكن غير مفاجئ فأنا اتابعه منذ عقود، ما بلغه الانفاق في عام 2015 وهو 3,2 تريليون دولار ! ولا أنوي هنا أن أعقّد الأمر على القراء بنسبته الى الناتج المحلي الاجمالي GDP وهي 18 % إلا لكي أذكّرهم بأنها أعلى نسبة انفاق على الصحة في كل بلاد العالم لكن النتيجة مع ذلك هي أسوأ نظام صحي غير كاف وغير عادل ، إذ يقدم الخدمات الطبية لمن يدفع ولا يرحم الذين لا يملكون الدفع ، مع الاقرار بأن أرفع مستوى طبي وجراحي وتشخيصي تكنولوجي وعلاجي هو ذاك الذي وصلت اليه الولايات المتحدة ، وعن ذلك الرقم الاعلى في التاريخ يقول التقرير: انه مرشح للزيادة في العقد القادم بسبب زيادة عدد السكان المسنين والنمو المستمر في الاسعار الطبية ويقول كذلك أن شركات التأمين الصحي تحصل على ثلثه في حين يتوزع الباقي على مقدمي الخدمات الطبية نفسها (!) من المستشفيات والاطباء والمديكير Medicare والمديكيد Medicaid وأخيراً الاوباما كير Obama care !
لدواعي الاسترشاد برأي الخبراء الصحيين الاميركيين أنفسهم أعود مع القارئ الى اول كتاب هام قرأته قبل أكثر من ثلاثين عاما وقد اهدانيه مؤلفه جوزيف كاليفانو جونيور الذي كان قبل ذلك بسنوات قليلة وزيرا للصحة في عهد الرئيس كارتر وتحدث فيه عن ثورة في الرعاية الصحية الاميركية يريدها ويتمناها، ومن ناحيتي اتذكر جيداً أنني استخدمتُ ما استوعبته منه في مقارعة الوكالة الاميركية للانماء الدولي USAID التي كانت تحاول ذات يوم فرض ارشاداتها او أملاءاتها على نظامنا الصحي ومن ورائها البنك الدولي نفسه ، كما بيَّن وزير الصحه الاميركية السابق نتيجة خبرته وبحثه كيف تسير الخدمات الطبية هناك في طريق غير صحيح ويتحمل الشعب الاميركي عيوبها الكثيرة مع انها تكلفه نفقاتٍ باهظة خشي ذات يوم ان تصل ال 1,5 تريليون دولار فتقصم ظهر الاقتصاد الاميركي برمته، وها نحن نراها تتخطى الثلاثة تريليونات دون ان تحقق امال المواطنين في تأمين صحي شامل أسوة بكثير من الدول الاوروبية او على الاقل الجارة كندا حيث أفضل خدمات صحية في دول العالم الرأسمالي كله حتى لتتمناها أكثرية شرائح شعب الولايات المتحدة ، او أسوة بالعلاج المجاني الكامل في بلاد صغيرة فقيرة مثل كوبا ! ( من يذكر فيلم Sicco لمايكل مور؟ )
وللتاريخ فان من المؤكد أن محاولات جادة عديدة لاصلاح هذا النظام بُذلت في الولايات المتحدة منذ الرئيس جون كنيدي وصولا الى الرئيس اوباما لكنها كانت تواجه كل مرة بمقاومة شديدة من قبل قوى عديدة تلتقي (لوبياتها) في الكونغرس وقد تابعتُ منها حديثاً مشروع هيلاري كلينتون حين كانت عضواً فيه في تسعينات القرن الماضي ثم تابعت المعركة الشرسه التي خاضها اوباما وحزبه الديمقراطي في السنوات الاخيرة وكيف جرت قصقصة مشروع الأوباما كير (كما يدعى الان) الى درجة أنه أعيد الى حظيرة شركات التأمين الخاصه بعد ان كان جوهره الاساسي أن تقدم الحكومة خدماته باعتبارها الجهة المُؤَمِّنه كما الحال في معظم دول العالم..! وحتى المكاسب المحدودة التي حققها المشروع لاصحاب الدخل المتدني فأن شركات التأمين مازالت غير راضية عنه وغير قانعة بحصتها منه لأنها نقصت قليلا عما قبل ونراها الآن فرحة سعيدة بالفلتات اللسانية التي يطلقها الرئيس القادم دونالد ترامب ويرعب بها الفقراء وهو يهدد بالغاء الاوباما كير !
وبعد.. فإن احتمال إقدام الادارة الجديدة على تغيير في السياسة الاميركية عامة بما فيها الصحية لا يمكن اعتباره شأناً اميركيا داخلياً لا يجوز التدخل فيه فالعالم كله أصبح داخل أميركا لأن أميركا موجودة داخل كل العالم !
مواضيع ذات صلة