اما «البرادعي»فهو الدكتور محمد البرادعي, الشخصية التي شغلت قبل ثلاث سنوات ونيِّف منصب نائب رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية, في جمهورية مصر العربية، بعد الثورة الشعبية التي اندلعت في 30 حزيران عام 2013 وأعقبتها إطاحة الرئيس الإخواني محمد مرسي من منصبه, الذي كان حصّنَه بقوانين قراقوشية في الثالث من تموز العام نفسه، على نحو بدا فيه هذا الرجل وكأنه إحدى فعاليات النُخب السياسية والحزبية المصرية التاريخية, التي اسهمت في إنضاج الظروف الاجتماعية والاقتصادية و»النفسية» لإطلاق ثورة 25 يناير في العام 2011، بعد اربعة عقود من تصحُّر الحياة السياسية في مصر العربية, وتحوّلِها الى «مسخَرة» حقيقية, إثر تمادي الحكم الباطش والفاسد والمُتنكِّر لهويّة مصر القومية وتاريخها ودورها في المنطقة وفي العالم, خصوصا دورها العربي في عهد السادات، الذي تنكّر لدماء شهدائها ونقل بندقية مصر العظيمة من كتف النضال والعروبة وفلسطين, الى كتف الإمبريالية والصهيونية وسماسرة ووكلاء الشركات عابرة القارات, تحت شعار سياسات «الانفتاح» الإقتصادي, الذي وصفه الراحل احمد بهاء الدين بـ»السداح مداح» ثم جاء حسني مبارك, بعد «عشرية» السادات السوداء, كي يُحوِّل مصر البَهِيَّة, الى «عزبة» لعائلته واتباعه الفاسدين وحلفائه في تل ابيب وواشنطن,تلك التي «تركته لمصيره» بعد ان قالت له جموع الشعب المصري في ميادين المدن والكفور والنجوع... «إرْحل».
مناسبة الحديث عن محمد البرادعي حامل جائزة نوبل للسلام, عندما كان رئيساً للمنظمة الدولية لمنع انتشار الاسلحة النووية، هو خروج هذا الرجل الإنعزالي والنُخبوي وفاقد الكاريزما وسريع الغضب والمستعلي على جموع الفقراء والبسطاء, بل على رهط السياسيين والحزبيين والمفكِّرين واساتذة الجامعات, الذين ظنوا به خيرا عندما عاد الى مصر وانتقد – في شكل خجول, لكنه... مُقارنة بتلك الاجواء السائدة في عهد مبارك عام ,2010 كان انتقاداً لافتاً – نظام مبارك, داعيا الى دمقرطة الحكم وإشاعة الحرّيات وفتح المجال لتجديد الحياة السياسية في الديار المصرية. ويمكن للمُشكِّك في هذه الصفات التي قيلت في شخص البرادعي, ان يعودوا الى ما كتبه كثيرون من الدائرة الضيقة التي احاطت به منذ عودته الى مصر بعد انتهاء عمله في المنظمة الدولية, وفي مقدمة هؤلاء الدكتور حسن نافعة استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الذي كتب كثيراً في هذا الشأن وسمعته شخصياً اكثر من مرة خلال زياراته العديدة الى عمان ولقاءاتي به.
ما علينا..
عاد البرادعي الى الأضواء قبل ثلاثة ايام (الاحد الماضي) عبر «التلفزيون العربي» الذي يبث من العاصمة البريطانية لندن, والذي مقرّ ادارته وتمويله في العاصمة القطرية الدوحة, حيث هناك ايضا «شقيقته» صحيفة «العربي الجديد» التي يقودها ويشرف على تحريرها,كما المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات–في ما هو مُؤكد–الدكتور عزمي بشارة.
اسم البرنامج الذي بُثت الحلقة الاولى من خلاله والتي ستتبعها اربع حلقات اخرى كما جاء في مقدمة المذيع خالد الغرابلي، هو «في رواية اخرى».. كانت هذه الحلقة مُكرّسة للشأن المصري, جلس خلالها البرادعي بطاووسية ونرجسية لافتتين, يُفتي ويُصدّر الأحكام ويُصفّي حساباته خصوصا مع المرحلة الناصرية والرئيس الخالد جمال عبدالناصر على وجه الخصوص, الذي نحتفل بذكرى ميلاده التاسعة والتسعين(15/ 1/ 1918)... الاحد المقبل, ومعروف عن البرادعي, انه كاره لعبدالناصر وناقم على مرحلته الى درجة الحقد التي يشارك فيها السادات واسرائيل واميركا وجماعات الإخوان المسلمين وكل من سار في ركب الرافضين والمعادين للنهج الناصري, القائم على قِيَم التحرُّر والإنحياز للعروبة ورفض التبعية والخنوع, و مقاومة كل مشاريع تجزئة الوطن العربي او نهب ثرواته او فتح حدوده واسواقه للشركات الرأسمالية والكومبرادور الداخلي الخادم الامين للمصالح الاستعمارية في بلاد العرب.
حاول البرادعي, دون نجاح يُذكر, بلغة هابطة وغير متماسكة وأفكار مبعثرة, ذات نبرة شعاراتية واستعلائية, الإساءة الى عبدالناصر شخصيا والى تجربته الرائدة (التي لا تخلو من اخطاء بالطبع, لكنها قليلة مقارنة بانجازاته الضخمة.. مصريا وعربيا وعالميا) لكنه ــ البرادعي ـــ كان مرتبكا وفاشلا في الإضاءة على بدائل غير تلك التي طالما ردّدها اعداء عبدالناصر, كالإخوان المسلمين ورهط القوى الظلامية المرتبطة بالاستعمار الغربي وعملائه الصهاينة في الداخل العربي وخارجه، ولهذا وقع هذا الرجل الذي يحمل درجة الدكتوراة في «الحقوق», في مطب العمومية واطلاق الشعارات والتركيز على نكسة حزيران 67 والغمز من قناة ثورة 23 يوليو, بل وصل الامر به, الى التلميح بان عبدالناصر هو الذي بدأ حرب حزيران ضد اسرائيل, في تبرئة واضحة لقوى العدوان الإستعمارية والصهيونية المُتحالِفة مع قوى عربية, لم تكن تُخفي عداءها لعبد الناصر ومشروعه القومي, تلك القوى التي تحالفت من اجل توجيه ضربة استباقية للمشروع الناصري القومي الذي كان في ذروته.
في السطر الاخير.. ورغم ان المساحة لا تتسع, بل لا يستحق حديث البرادعي الاسود, العودة لمناقشة وفضح سقطاته الفكرية والتاريخية والقانونية في عجالة اخرى، فإن التاريخ ووقائع الأيام, يُثبتان صوابية وجدّية المشروع الناصري,في بعديه المصري والقومي, وما الحقد الذي يعبر عنه اعداء عبدالناصر, حتى بعد كل هذه السنوات على غيابه الجسدي, سوى الدليل القاطع, بانه كان على حق وانه كان في الجانب الصحيح.. من التاريخ.
kharroub@jpf.com.jo
مواضيع ذات صلة