كتاب

ميلاد المسيح يوم للُحمة الوطنية

ذكرى ميلاد السيد المسيح عيسى بن مريم الذي نحتفل به اليوم، يصلح أن يكون يوماً للُحمة الوطنية ورص الصفوف، ذلك أنه بمقدار مايعني المسيح لأتباعه من المسيحيين، فإنه يعني كذلك للمسلمين، فلا يكتمل إيمان المسلم إن لم يؤمن بعيسى بن مريم وما جاء به،فالمسيح في عقيدة المسلمين هو كلمة الله ونفخة من روحه كما جاء في القرآن الكريم لقوله تعالى « إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه» وإذا كان من صلب إيمان المسلم أن يؤمن بسائر أنبياء الله ورسله، فإن للمسيح عليه السلام مكانة خاصة عند المسلمين، وقبل ذلك في القرآن والسنة النبوية، من ذلك أن القرآن الكريم يتفرد بذكر تفاصيل ولادة السيد المسيح في آيات طويلة تبدأ بقوله تعالى « واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا « إلى قوله تعالى « إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون»، وفي ذكره تفاصيل قصة ولادة المسيح فإن القرآن الكريم يذكر العديد من الصفات التي تميز وتصف بها السيد المسيح عليه السلام، أولها الجانب الإعجازي في ولادته عليه السلام بقوله تعالى « ولنجعله آية للناس» وهي آية ومعجزة تذكر البشر ببدايتهم الأولى، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»، وبهذا فإن القرآن الكريم ساوى بين المسيح وبين آدم بداية الخلق، وبداية الخليقة بالطهر والنقاء، قبل أن يعصي آدم ربه ويهبط من الجنة، وهكذا فإن المسيح في التصور الإسلامي هو رمز للطهر والنقاء.

يقودنا الحديث عن طهر ونقاء السيد المسيح الى الحديث عن طهر ونقاء أمه البتول مريم العذراء، والبيئة الطاهرة التي نشأت بها فجعلتها أهلاً لاحتضان معجزة الله وكلمته، فقد أفاض القرآن الكريم في الحديث عن أخلاق السيدة مريم العذراء فوصفها بأنها « التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين» ولبيان اعتزازها بأخلاقها وصف القرآن الكريم كيف أنها عليها السلام استعاذت بالله كما يفعل كل الأتقياء الأطهار عندما يحزب بهم أمر، فقد قالت عليها السلام لرسول ربها» إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا» وعندما استهجنت قوله « قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً» تحصنت مرة أخرى بأخلاقها قائلة « أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا». وهي نفس الأخلاق التي احتج بها قومها عليها قبل أن يوضح لهم طفلها حقيقة الأمر «فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئاً فريا يا أخت هارون ما كان أبوك إمرأ سوء وما كانت أمك بغيا»، وبهذه الآيات يفترق المسلمون عن اليهود في نظرتهم إلى البتول التي اقذعوا فيها القول قاتلهم الله، بخلاف ما يعتقده المسلمون من أن مريم هي خير نساء العالمين التي اصطفاها الله عليهن جميعا، وجعلها سيدة نساء الجنة، وباسمها نزلت سورة كاملة من سور القرآن، وهو مالم يحدث لأم رسول الله محمد، أو لإحدى زوجاته أو بناته، وبهذا فان المسلمين يتعبدون لله عزوجل بتلاوة سيرة مريم عليها السلام يتلونها آيات في قرآنهم المجيد،كما يتعبدون ربهم بتلاوة سيرة المسيح عليه السلام،وهذه من علامات تعظيم المسلمين للمسيح عليه السلام الذي بينت الآيات القرآنية التي روت قصة ولادته الكثير من صفاته، وأولها أنه وليد سيداً « قد جعل ربك تحتك سريا» وثانيها صفة الرحمة» قال كذلك قال ربك هو علّي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمر مقضيا» ومع الرحمة اتصف عليه السلام بالبر ولذلك منح السلام في كل مراحل حياته على هذه الأرض وفي الملكوت الأعلى، كما بين القرآن الكريم على لسان المسيح عليه السلام « وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا، والسلام علّي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا».

ومثلما قص القرآن الكريم معجزة ولادة المسيح عليه السلام كذلك قص عن معجزاته عليه السلام ومنها « ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين»ومنها إحياء الموتى ومعالجة الأمراض المستعصية « ورسولاً إلى بني اسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم ، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرىء الأكمة والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين».

هذا وغيره كثير مما قصه القرآن الكريم عن المسيح عليه السلام، وهو القص الذي عمر قلوب المسلمين بحبه عليه السلام، حتى أننا نستطيع القول أنه إذا كان حب رسول الله محمد وآل بيته يوحد المسلمين على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم، فإن حب المسيح يوحد المسلمين والمسيحيين، مما يدفعنا إلى القول بأن يوم ميلاد المسيح يصلح أن يكون يوما للحمة الوطنية نستذكر فيه، أن ما يجمعنا كأبناء وطن أكثر بكثير مما يفرقنا، وأن هذا الذي يجمعنا أقوى بكثير من مزاعم التكفيريين، لأن الذي يجمعنا يؤكده كتاب الله وحديث رسوله عليه السلام الذي أكثر من وصاياه لأتباعه خير باتباع أخيه عيسى الذي قال عنه انا أولى الناس بعيسى» ويؤكده تاريخ طويل من الحياة المشتركة بيننا يقول أننا في هذا الوطن أولى بعضنا ببعض. وكل عام والجميع بألف خير.

Bilal.tall@yahoo.com