نواصل حديثنا في انتخابات مجلس النواب الثامن عشر حيث قلنا في مقال سابق أننا تحولنا إلى مجتمع هش، مفرغ، بسبب غياب الأطر التي من شأنها حشد قوى المجتمع السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية،وتوظيفها لتطوير المجتمع والرقي به،ومن ثم فرز قياداته، بما في ذلك القيادات البرلمانية، وأنه بسبب هذا الغياب للأطر اختلفت أساليب العمل والوصول إلى المواقع القيادية المختلفة، ومنها الوصول إلى قبة البرلمان، فبرزت ظاهرة المال الأسود التي غذت ظاهرة البيع والشراء، ليس للأصوات فقط بل للمرشحين، وتضخمت ظاهرة الرياء الاجتماعي، فصار الحضور في الأفراح والأتراح من أهم سبل الوصول إلى قبة البرلمان، وصولاً إلى استخدام الشعوذة بدلاً من البرامج الانتخابية كما شهدنا في الحملات الانتخابية لمجلس النواب الثامن عشر، فلماذا وكيف وصلنا الى هذا الانهيار الخطير، في أطر فرز القيادات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بما فيها البرلمانية؟
كثيرة هي الأسباب، التي أوصلتنا إلى هذه الحالة، لعل أولها وأخطرها أنه تم وخلال سنوات طويلة وبصورة مبرمجة تدمير كل أطرنا التقليدية التي كانت تفرز قياداتنا السياسية والاجتماعية، فعلى الصعيد الاجتماعي والسياسي جرت حملة لفكفكت الإطار العشائري، وتشويه صورة العشيرة، وضرب زعاماتها التقليدية، بخلق بدائل مسخ لهذه الزعامات، بكل ما في ذلك من أخطار على بنية المجتمع الاجتماعية والسياسية، فتاريخاً كانت العشيرة حاضنة للأخلاق الحميدة والوسطية والاعتدال في كل شيء، بما في ذلك التدين، مثلما كانت العشيرة مكوناً رئيساً من مكونات التماسك الاجتماعي، ومن أهم آليات حفظ هذا التماسك المانع للتطرف بكل أشكاله السياسي والديني والاقتصادي والأخلاقي والسلوكي، وسياسياً قدمت العشائر العربية عموماً والأردنية على وجه الخصوص قيادات سياسية يشار إليها بالبنان، وهناك قائمة طويلة جداً من رموز العشائر التي شاركت في صناعة النهضة العربية وتحرير الأمة من تعسف الاتحاد والترقي في نهايات الدولة العثمانية، مثلما ساهمت هذه الرموز في تأسيس الدولة الأردنية الحديثة وبنائها وحمايتها،فالعشائر الأردنية هي التي عقدت المؤتمرات الوطنية وشاركت فيها، وهي القوة الكامنة وراء اتفاقية أم قيس لمواجهة التمدد الصهيوني، وهي المحرك الرئيس لمخاطبة الحسين بن علي، لإيفاد أحد أبنائه إلى الأردن لمواصلة النضال من أجل تحقيق مشروع النهوض العربي،وبهذا المعنى فإن العشائر الأردنية كانت محركاً رئيساً للحياة السياسية، مثلما كانت إطاراً متقدماً لفرز القيادات الاجتماعية والسياسية بما فيها القيادات البرلمانية، وهو فرز كان يقوم على أسس ومواصفات تجعل من يجتازها قائداً حقيقيا في مجتمعه، لذلك فإن تفكيك العشيرة أدى إلى حرمان المجتمع من واحدة من أهم آليات فرز القيادات، خاصة وأن عملية تفكيك وتهميش العشيرة جرت دون بناء بديل مناسب لها، لسد الفراغ الذي نجم عن هذا التفكيك والتهميش،الذي أوصلنا إلى ما نشكو إليه اليوم من اختلالات في مستوى الأشخاص وأساليب الوصول إلى المواقع المختلفة.
ومثلما جرى تفكيك العشيرة، وتهميش دورها في فرز القيادات الاجتماعية والسياسية، جرى كذلك تفكيك وشيطنة الأحزاب في بلدنا، وتحويلها إلى «فزاعة» لتخويف الشباب من الانخراط في العمل العام والحزبي منه على وجه الخصوص، ومن ثم الارتفاع بمستوى وعيهم السياسي، وتحشيد جهودهم للعمل السياسي. ليس هذا فقط فمثلما جرى تصنيع شيوخ عشائر لضرب الزعامات العشائرية الحقيقية، جرى تصنيع أحزاب هزيلة كشفت الانتخابات النيابية الأخيرة حجم هزلها وضعفها وعدم جديتها، وعدم قدرتها على الوصول إلى الناس، وهذا الحصار للحياة الحزبية سبب رئيسي آخر من أسباب ما وصلنا إليه، حيث غابت البرامج الحزبية وحضرت الشعوذة وطقوس الرياء الاجتماعي.
سبب آخر مهم من أسباب ما وصلنا إليه،وكشفت عنه الانتخابات الأخيرة لمجلس النواب الثامن عشر، ويتمثل في انسحاب معظم رجالات الدولة من المشهد الانتخابي، ترشحاً أو دعماً، وهو انسحاب يثير جملة من الأسئلة منها هل هذا الانسحاب ناجم عن شعور هؤلاء بالعبثية واللاجدوى؟ فإذا كان الأمر كذلك فهو خطير، ويعني أن حجم الخراب الذي أصاب حياتنا السياسية مما يصدق عليه القول «أتسع الرتق على الراتق»، أم أن انسحاب هؤلاء من المشهد الانتخابي هو شعور بالخذلان وبتخلي الدولة عن رجالها؟ فإذا كان الأمر كذلك فإنه مؤشر خطير أيضاً يعني أننا نفتقر إلى أطر تجعلنا نحتفظ برجالاتنا وبإشعارهم أنهم جزء من الوطن وتفاعلاته، بصرف النظر عن مواقعهم، فرجال الدولة لا يستمدون حضورهم من مواقعهم الرسمية بمقدار ما يستمدونه من حضورهم في الحياة العامة، وهذا يوجب علينا أن نعيد النظر في آليات التعامل مع رجال الدولة، بما يكفل استمرار احترامهم، واستمرار عطائهم لوطنهم، واستمرار قدرة مؤسسات الدولة الدستورية على المساهمة في فرز القيادات، كما كان حال هذه المؤسسات لعقود طويلة، كان يجري خلالها التدقيق فيمن يتولى المواقع القيادية بمؤسساتنا العامة، وهو أمر لا بد من العودة إليه، حتى لا نفقد أداة مهمة من أدوات فرز القيادات المختلفة التي يحتاج إليه بلدنا، في مختلف المجالات ومنها الحياة البرلمانية، التي لدينا ما يشبه الإجماع على وجود خلل واضح في آليات فرز رجالها، كما كشفت انتخابات مجلس النواب الثامن عشر الذي ما زلنا نقرأ في انتخاباته. أخذين بعين الاعتبار أن لهذا الخلل في آليات فرز القيادات نتائج وخيمة.
Bilal.tall@yahoo.com
مواضيع ذات صلة