كثيرة هي الدروس والعبر التي يمكننا أن نستقيها من السيرة النبوية, وهي دروس وعبر تتجدد بتجدد الأزمان والمعطيات والمكتشفات, ولعل هذا سر من أسرار جعل الاجتهاد مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي. وهو مصدر يقوم على إعمال العقل بعيداً عن التسليم المطلق بالموروث في جانبه البشري, وعلى احترام الرأي والرأي الآخر, ولذلك كان أئمة المذاهب يحترم أحدهم الآخر, ويأخذ عنه دون أن يُسلم له قياده, بل كان كلٌ منهم يخضع أراء الآخر للدراسة والتمحيص, فيأخذ منه بما يقتنع به بالدليل والمنطق, ويخالفه على أساس الدليل والمنطق أيضاً, وقد لخص ذلك كله الإمام الشافعي عندما قال «كل يُأخذ منه أو يُرد عليه, إلا صاحب هذا القبر» يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي نحتفي اليوم بذكرى هجرته التي يمكننا أن نستخلص منها الكثير من الدروس والعبر الجديدة في إطار الاجتهاد, ولعل هذا سر من أسرار قوله عليه السلام «أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها», والتجديد المقصود هنا على ما أظن يشمل كل شيء إلا ثوابت العقيدة.
وحتى يتحقق التجديد الذي تحدث عنه رسول الله «ص» ,لابد من أن تتوفر شروطه وأدواته وأولها إعمال العقل بكل ما يصلنا من شؤون الدنيا ومفاهيم الدين المستنبطة من اجتهادات البشر باستثناء ثوابت العقيدة, ولا نعتقد أن شكل الدولة ونظامها السياسي من ثوابت العقيدة, بل من شؤون الدنيا التي فُتح مجال الاجتهاد فيها حتى بوجود رسول الله عليه السلام, كما حدث في يوم معركة أحد وقبلها يوم معركة بدر, وفي إقرار صيغة الآذان, وغيرها كثير.
لقد تبلور الاجتهاد ودوره أكثر منذ اللحظة الأولى لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم, وما جرى من خلاف وجدال في سقيفة بني ساعدة حول الخلافة ومن يتولاها, وهو الخلاف الذي ما زالت مفاعيله تسري في الأمة إلى يوم الناس هذا، حول شكل الدولة ونظامها السياسي وشروط الحاكم, وهو الخلاف الذي قسم الأمة إلى فسطاطين «سنة وشيعة», فقد بدأ الخلاف بين هذين الفسطاطين على أساس سياسي, تبعته اجتهادات مذهبية تمحورت في أساسها على البعد السياسي وشروط الخلافة, مما يؤكد أن نظام الحكم وشكله ليس من ثوابت العقيدة, بل من فروع التشريع, وهذه قاعدة غيب الجدل حولها الكثير من الحقائق عن طبيعة الدولة كما بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي نُحيي اليوم ذكرى هجرته وذكرى تأسيسه لأول دولة قائمة على التصور الإسلامي.
أن أية قراءة محايدة وموضوعية للدولة التي أسسها رسول الله ستقودنا إلى أنه عليه السلام لم يبن دولة دينية, لكنه أسس دولة مدنية بكل ما يعنيه مصطلح الدولة المدنية في عصرنا هذا, وأول ذلك اسم الدولة وعاصمتها، فلماذا قام رسول الله عليه السلام بتغيير اسم يثرب إلى اسم المدينة المنورة؟ ولماذا لم يسمها «يثرب المنورة» أم أن لفظ المدينة كان مقصوداً لذاته ودلالاته.
أن كل الإجابات على هذا السؤال كمافي كتب السيرة والتاريخ تصب في تعزيز مفهوم الدولة المدنية فمن المأثورات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحب اسم يثرب لأن من معانيه الفساد، فيثرب من الثرب وهو الفساد، وهو ما جاء رسول الله ليحاربه ولذلك اختار اسم المدينة بدلاً من يثرب، وهو اسم له دلالاته لقوله عليه السلام «أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد» وهنا نقول أليس من أهم صفات الدولة المدنية محاربتها للفساد، من خلال رقابة المجتمع على أداء المؤسسات والأفراد، وهي الرقابة التي جعلها الإسلام فرض عين على كل الناس الشركاء في الوطن.
غير هذا الذي جاء في الحديث عن دلالات تغيير اسم يثرب إلى المدينة وعلاقته بطبيعة الدولة التي بناها رسول الله بعد الهجرة، وهي طبيعة مدنية جسدتها وثيقة المدينة التي وضعها عليه السلام فلماذا لم تنص وثيقة المدينة التي شكلت أول دستور لتنظيم المجتمع وفق التصور الإسلامي على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة الجديدة؟ أكثر من ذلك, لماذا لم تنص الوثيقة «الدستور» على شكل الحكم,وأكثر من ذلك كله أيضا, لماذا لم يحدد القرآن الكريم ومن ثم الحديث النبوي شكلاً محدداً لهوية الدولة وآليات انتقال الحكم فيها, واكتفيا بوضع أسس ومبادىء عامة لطبيعة وصفات الحكم والحاكم, تتلخص بالكفاءة والعدالة والمساوة, ولذلك لم يحدد رسول الله علية السلام اسم خليفته صراحة, وكذلك فعل الخلفاء من بعده هذه واحدة.
أما الثانية فإن وثيقة المدينة المنورة لم تصف مجتمع المدينة بأنه مجتمع إسلامي, ولم تصبغه بصبغة الإسلام والمسلمين, وتركت كل الفئات على معتقداتهم وعباداتهم وتقاليدهم وأعرافهم, باستثناء إلزامهم بالدفاع عن المدينة ضد أي عدوان خارجي,أي أن رسول الله عليه السلام الذي نحتفل اليوم بذكرى هجرته وتأسيسه لأول دولة في تاريخ الإسلام والمسلمين بنى دولة تؤمن بالتعددية بكل صورها وأشكالها الاقتصادية والاجتماعية والعقيدية, بما في ذلك ترك المشركين على شركهم, وعدم إكراههم على الدخول في دين الله, فهل هناك أدلة أكثر من هذه على أن دولة المدينة المنورة كانت دولة مدنية؟ مجرد سؤال نطرحه بين يدي ذكرى هجرة رسول الله, والجدل الواقع في بلادنا حول مفهوم الدولة ومدنيتها, لعل المناسبة تكون مدخلا للمزيد من القراءة العقلانية للكثير من الموروث الذي نتعامل معه على أنه من المسلمات بل والمقدسات
Bilal.tall@yahoo.cvm
مواضيع ذات صلة