عبدالهادي راجي المجالي
كانت الساعة تشير للثامنة صباحا , حين وصلنا قاعدة جوية في شرق المملكة يوم أمس لتصوير فيلم , وإعداد كتاب عن الحياة في الجيش ..وقد قوبلنا بهدير الطائرات المقاتلة , بعضها يقلع ..والبعض الاخر يهبط ..
جلسنا في السرب المقاتل , نتحدث مع القائد عن المهام , والتدريبات والقدرات ..وهدير ال (إف 16) ما زال يملأ السماء ..حتى جاء علي , وأنا بحسب تعليمات التوجيه المعنوي لن اذكر الاسم الحقيقي للطيار سأكتفي بتسميته (عليا) ..
هو قائد (إف 16) ..ولأول مرة في حياتي أرى شابا اسمر , لوجهه وهج ينير المكان ..لقد كان مدججا بالأحزمة , ويحمل مظلة , وهناك خرطوم يتدلى من الخاصرة للضغط ..واخر للأوكسجين ..و كنت أتأمله , مازال في أول العمر وأراهن أنه في منتصف العشرين ...وتذكرت قصيدة لحبيب الزيودي :- (فتى به سمرة تغوي البنات إذا ما سرج المهرة الشهباء أو ركبا ) ..كان سيذهب في رحلة وذهبنا معه لنشاهد إقلاع الطائرة ..وعلي لن يغوي البنات , هو سيغوي الأرض وسيغوي السماء ...
وصلنا للطائرة , كانت مدججة بخزانات البنزين , وأنا أعرف أن ثمة قذائف على الأجنحة , لكنهم يقولون أن الطيار خارج في مهمة ونحن لا نسأل اين وكيف ؟ ..ومن بعيد راقبنا صعودها الجو وشاهدنا علي وهو يمتطي صهوتها ...إلى اين ذهب لا أعرف ؟..ولكنها كانت تحمل أطنانا من الوقود ..وعلى الأجنحة أرتال من الصواريخ والقذائف ...وحين صعدت , صوتها كان أشبه بالغضب ..وقمرتها لصغرها , تجعل كل حركة محسوبة بدقة متناهية , قالوا لي في القاعدة أن هذه الطائرة من الجيل الرابع , وقد تصل الجاذبية فيها في بعض المناورات التي يجريها الطيار إلى (9) اضعاف الجاذبية الأرضية ...
كل ما لمحته , نيران هائلة من محركها خرجت حين أرخى لجامها وانطلق علي في الجو ..
حسنا بعد ساعتين عاد الفتى الأسمر بنفس الوهج ..وبنفس الود , وكان العرق يتصبب منه , وقد نفذ المهة أو الطلعة ..وجلس يحدثنا عن الطيران...إلى اين ذهب لا أعرف واين ذهبت الحمولة لا أعرف ؟...ولكني لحظتها عرفت معنى الدولة ..عرفت معنى الوطن , وعرفت مفهوم الرجولة ...نحن في برلماننا حين يصعد نائب المنبر ويهاجم الرئيس نقول (زلمه) ...حين يكتب أحدهم مقالا ثوريا نقول (زلمه) ..وحين يهدد أحدهم عبر الصحافة نقول أيضا (زلمه) ..يا ترى ما هو وصف فتي في منتصف العشرينيات , وأردني القلب والجبهة يمتطي صهوة ال(أف 16) وهي محملة بالموت ... ويصعد بها وراء الحدود ..أو ربما ابعد , ولا يخاف الموت ..ثم يعود وكل وهج الحياة يتدفق من عينيه ..
يا علي ..أنا منذ (21) أعمل في الصحافة , وكل مؤسسات الدولة تعاملت معها ..وقد كان لي مفهوم وتعريف خاص لمعنى الرجولة ومعنى الوطن وجئت أنت ونسفت كل التعريفات في رأسي , ماذا تسمى أنت أيها الخارق والفارس والبطل ؟
أنت الدولة والحامي لها , أنت الرجولة , وأنت معنى الوطن , وأنت القيمة الحقيقية للحياة ...وها أنا أيها الأردني الأسمر ..أمشي في شوارع عمان , وكل الشعارات كذب وأنت الحقيقة..كل ما يقولون هو محض إنشاء ..وأنت لا تقول أنت تجعل الة الموت ال (اف 16) ينطق هديرها في الجو ..وحتى الهدير فيه من لكنتك البدوية يا ابن عمي وأخي ودمي ..وأنت يا علي حين تصعد الجو لا أحد يعرف عنك ..أو يدري..عملك محاط بالسرية , وتحمل فيه روحك على كفك ..ونحن لأجل مهرجان انتخابي نشغل الصحافة والمواقع وأجهزة التلفاز ..
وأنت يا علي لست مثلنا , فنحن نشارك في المؤتمرات ..ونجعجع كثيرا وننظر كثيرا وفي النهاية نحمل أوراقا فيها توصيات , ستحفظ في الأدراج ..وأنت تحمل قنابل تحت جناح الطائرة ..ولا تحفظها بل ترميها باسم الوطن وتشعل الأرض من تحتك ..
دعني اقول لك شيئا ..يا فتى الجيش , وابن السماء وأعلى رجولة شاهدتها في عمري ..إذا قدر لي أن أعطي تعريفا للرجولة فهو أنت , وإذا قدر لي أن أعطي معنى ساميا للوطن فستكون أنت المعنى ...وإذا قدر لي أن أحكي عن الحقيقة فأنت تجلياتها ...ومعناها ..
في المرة القادمة , إسمح لي يا سيدي الطيار المقاتل أن أقبل اليد التي تقود الطائرة واسمح لي أن اسرق قليلا من وهج سمرتك وأنثره هنا على الشجر والمباني في عمان ...كي يعرف الناس , أن رجالا في الجيش يشترون الموت لأجل أن تحيا عمان ..
يا علي خذ عيوني في المرة القادمة كي تصعد معك الطائرة , علمني أيها الأردني الأسمر الجميل .. الرجولة ..فقد تعبنا من الإنشاء , كل حياتنا صارت ثرثرة وإنشاء...