«من السماكية إلى الوهادنة وبالعكس»، هذا المقال كتبته في صحيفة الرأي بتاريخ 29/3/2005. وكنت أتحدث به عن المواصلات وصعوبتها وبالأخص على طلاب الجامعات. أما لماذا احب البلدتين؟ فلان الثانية، في شمال الوطن، مسقط الراس العزيز الذي امضيت به اول عشر سنوات، أما الاولى، في جنوب الوطن، فامضيت بها عشر سنوات كذلك عدا ونقدا (1998 -2008) ككاهن في البطريركية اللاتينية.
وبذات الحب الذي امسكت به قبل اسابيع به كتاب العقيد المتقاعد محمود شريدة، الوهادنة بين الماضي والحاضر وعشائرها وتاريخها... امسك، باليد الأخرى، كتاب ابني السماكية: الدكتور نائل والأستاذ أيمن حجازين، بعنوان « السماكية وعشائرها»، وبالاخص عشيرة الحجازين وعشيرة العكشة بتفرعاتها، والذي قدما له في حفل خاص قبل أيام، بحضور دولة ابن الجنوب د. عبد السلام المجالي، ووزير الثقافة د. عادل طويسي. وبعيداً عن الصفحات المكتوبة هنا، أستذكر مع المؤلفين الصفحات غير المكتوبة، وهي تعب الأوائل وسهرهم وحراستهم وفراستهم، وتصميمهم على اكمال مشوار الحياة بروح التفاؤل.
والكتاب زاخر بالروح الوطنية العالية التي يتمتع بها أبناء السماكية... وأنا لا اقيس فقط على من أصبح وزيرا او نائبا أو نال شهادة الدكتوراة... مع الاحترام لكل الذوات المذكورين في الكتاب، الا انني ارى الوطنية والمواطنة الحقيقيتين، سمة من سمات جميع سكان البلدة العزيزة، موضوع الكتاب... وهي مغروسة في النفوس والضمائر... من البيت الى المدرسة الى الكنيستين اللتين هما لؤلؤتان كريمتان في جبين الوطن. ومن أصعب الأيام في السماكية كانت يوم الأحد، المصادف لوفاة الملك الحسين رحمه الله، وضعنا صورته في داخل الكنيسة، وكانت الأجراس تقرع بنغمات حزينة وكنت خائفاً من النظر في عيون الناس لأن الدمعة بل الدموع كانت تسقط حرَّى وصادقة نبيلة.
في السماكية «مدرسة اللاتين» التي يفرز لها الكتاب صفحات جميلة، تأسست عام 1912، وهي شأنها شأن المؤسسات الكنسية عامة، ليست محصورة لأبناء طائفة أو أبناء دين معيّن، بل هي مفتوحة الأبواب للجميع. واليوم حين نتحدث عن كيفية مكافحة التطرف ودعوات الغاء الآخرين، نعود إلى الأصل، إلى الجذور، إلى البدايات، ونقول: انّ ما بيننا من مشترك أكثر بل يغلب ما يفرق باسم الله. في السماكية، كما في الاردن الكبير، الدين يجمع ولا يفرق، وهو في خدمة المحبة والوئام. في السماكية تتعلم احترام دين الاخر واتباعه، في السليقة وفي حوار الحياة اليومية، البعيدة عن جدلياتنا وفرضياتنا في المؤتمرات وندوات الحوار المحلية والدولية. في السماكية، ليس هنالك حاجة الى فتاوى بجواز مصافحة الاخ لاخيه في الوطن وفي حياة الجنوب وفي انتظار الغيث وفي جمع الحصاد...
في السماكية، «كنت، كما يقول محمود درويش « كشرفة بيت أطل على ما أريد»، وذلك عبر دخول عالم الانترنت والساتلايت والإطلاع على مستجدات الكون والعالم، فتم عام 2003 اطلاق الموقع الالكتروني المعروف «أبونا» وشعاره إعلام من أجل الانسان من السماكية.
ولقد افرزت البلدة عددا من الكهنة والرهبان والراهبات، وهم معروفون بسموّ أخلاقهم وتمسكهم بايمانهم العربي المسيحي من جهة، وباحترامهم لجميع المواطنين، من جهة أخرى. وقد رحل قبل ايام احد الكهنة الافاضل: الاب المعلم فيصل حجازين، ونعته اسرتاه على الارض: اسرته البشرية المنتمية الى عشيرة اردنية عربية مسيحية، واسرته في البطريركية اللاتينية في القدس وعمّان. وقد أمضى جلّ عمله في خدمة الشعب في فلسطين بكنائسها ومدارسها، فمثّل بذلك وحدة الشخصية الكهنوتية العربية: بروحها العشائرية الايجابية والمنفتحة، وبتقواها وحسها الايماني العميق. كما مثل في عطائه وحدة أبرشية القدس في امتداد رعايتها الروحية على ضفتي، بل رئتي، نهر المعمودية الخالد: الاردن وفلسطين.
* مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام
مواضيع ذات صلة