نزيه أبو نضال - حين يذهب المبدع الحقيقي إلى الماضي سواء كان تاريخاً رسمياً أم تراثاً شعبياً فإنه يفعل ذلك لأنه مسكون بهموم الحاضر وهواجس المستقبل.. ومثل هذا الهاجس المعاصر هو الذي سيحدد بالضرورة زاوية التناول وأساليب المعالجة، وبالتالي فهو الذي سيبني الوقائع والشخصيات، ويدير الحوار، ويشحن العمل الفني بالرموز والدلالات الموحية التي تجعل المتلقي يتفاعل مع مضامين الخطاب الابداعي الذي توخّاه فريق العمل: مؤلفاً، وكاتب سيناريو وحوار، ومخرجاً ومنتجاً وممثلاً.
إن المادة الاسطورية التراثية هي بالأساس منجز عام للمخيال الشعبي، عبر مختلف الأقطار والعصور العربية، ولهذا تراها تشكل حافظة شعبية لمنظومة كاملة من القيم والمفاهيم والسلوكيات، ولكن ليس في حالة ثبات بل تغير وفق اشتراطات الزمان والمكان.. ومن هنا فهي الى جانب ما تقدمه من متعة وتسلية، عن طريق الراوي أو الحكواتي، وحتى عن طريق الجدات الحكاّءات، فإنها تقدم الموعظة وتحرض على العمل والنضال، خصوصاً اذا ما لحق بالناس جور وقهر أو تعرضت الاوطان لعدوان.
وهنا يستلهم الراوي من التاريخ سير القادة والابطال، ويحوّلها الى أساطير شعبية يجري التمثل بها، كما في سير الظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة ومحمد البطّال وسيف بن ذي يزن وعنترة وابو زيد الهلالي وحتى باستحضار ملاعيب شيحا وعلي الزيبق وجحا وغيرهم.
هذا الدور الذي لعبه الرواة القدماء، في توظيف التراث لاحتياجات زمنهم، اشتغل عليه الروائيون المعاصرون، وهم يعيدون كتابة التاريخ الرسمي أو يستحضرون تراثه الشعبي.. كل حسب رؤيته وغايته: نجيب محفوظ في الفرعونيات التاريخية والميثولوجيا الدينية، ورضوى عاشور في بحثها عن أسباب سقوط الممالك واحتلال الاوطان، كما في غرناطة وسراج، ثم مع مدن ملح عبد الرحمن منيف ومدارات نبيل سليمان وتحولات خيري الذهبي وراووق عبد الخالق الركابي وزوابع زياد قاسم وفهود سميحة خريس وطوفانها.. كل منهم يسعى الى الامساك بالدور الجوهري الشعبي، باعتباره المحرك الحقيقي للتاريخ ومحدد مساره الآتي، ومع هؤلاء نجد الكتاب يذهبون الى التراث الشعبي: فاروق خورشيد مستعيداً وموجهاً للتراث الحكائي والاسطوري، كما في علي الزيبق والسير الشعبية: سيف بن ذي يزن، السيرة الهلالية (أبو زيد الهلالي)، الظاهر بيبرس، وزكريا الحجاوي في «ملاعيب شيحا».. الخ.
في زمن لاحق وحين أصبحت الدراما التلفزيونية هي ديوان العرب، بعد الشعر والرواية، اندفع المبدعون يغرفون من التراث، كل وفق رؤاه،.. فتحلق الناس، مرّة ثانية، حول الحكواتي الجديد، على هيئة شاشة صغيرة، ولكن الدراميين، مثل آبائهم الروائيين وأجدادهم الحكواتية، لا يذهبون الى التراث محايدين بل لكل منهم قصد وغاية، ويعبر عن هذه الحقيقة بجلاء واحد من أبرز كتاب الدراما التاريخية والذي قدم الخنساء وعروة بن الورد وطرفة بن العبد وشجرة الدر والصعود الى القمة وصلاح الدين الأيوبي وصقر قريش وربيع قرطبة، وغيرها، حين يقول:
«إن استلهام التاريخ الماضي وشخصياته ووقائعه وتوظيفها من خلال رؤية فكرية وفنية متعمقة وراقية لا ينفي عن الدراما صفة المعاصرة.. فالعمل الذي تدور وقائعه في التاريخ الماضي ليس عملاً تاريخياً تسجيلياً يروي وقائع التاريخ، وإنما هو يوظف المادة التاريخية بصياغة خطاب فكري وسياسي وإنساني وفني وجمالي معاصر، يصوغه كاتب معاصر ويتوجه به إلى مثقّفٍ معاصر في سياق اجتماعي ثقافي سياسي معاصر. وإذن، فإن عناصر الخطاب كلها هي عناصر معاصرة. والمعاصرة بهذا المعنى لا تتعين بزمن الأحداث الدرامية نفسها، وإنما بالرؤية الفكرية والفنية التي يعالج من خلالها المؤلف مادته».. وهذا ما رأيناه في مسلسلات الزير سالم وعنترة وأبو زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن الذي كتبه عبد الرحمن بكر وأخرجه مأمون البني، وملاعيب شيحا من اخراج إبراهيم الشوادي وبطولة أشرف عبدالباقي وغادة عبدالرازق وحكايات «ألاعيب علي الزيبق» التي قدمها المؤلف يسري الجندي، وغيرها.
الزير سالم
يقول ممدوح عدوان مؤلف ومعد مسلسل «الزير سالم» موضحاً مقاصده باختيار هذا النص التراثي وتعديله بصورة مغايرة عما هو شائع عند الناس: «إن الكاتب الجاد لا يهمه أن يستجيب للذائقة الشعبية، بالعكس هو يتحداها، الذائقة الشعبية يكون فيها أحياناً الكثير من الأخطاء، فكثيراً ما تجد فيها تصوراً خاطئاً للقصة وتصوراً خاطئاً للبطل والشرير، كما أن الذائقة الشعبية نمطية، فالشرير شرير دوماً، والخيّر خيّر دوما». ويعترف: «الذين انتقدوا تهديم صورة البطل الشعبي (الزير سالم) كثر، وأنا هدمت هذه الصورة عن قصد، وأشعر بالسعادة لأنني فعلت ذلك» وأوضح «هذه الحساسية التي تحيط بأبطال التاريخ هي العقبة الأولى التي تواجه الباحث الذي يريد ان يتقصى حقيقة الأحداث والشخصيات، فمن غير المسموح به ان يتم التشكيك في حدث متفق على وقوعه أو في شخصية متفق على تصنيفها السلبي أو الايجابي». الفنان سلوم حداد، المشرف العام على انتاج مسلسلي الزير سالم وابو زيد الهلالي وقام بتمثيل شخصيتهما قال رداً على سؤال فيما اذا كانت انكسارات الأمة هي التي دفعته لتقمص هذه الأدوار للرموز التاريخية: «هذا مايحصل بالضبط، لأننا نعيش عصر الانحطاط، وبحاجة الى رموز وأبطال تاريخيين، يعيدون لنا مجدنا وتاريخنا الحافل بالانتصارات العظيمة التي لا نشاهدها اليوم». وحول النهاية المشوهة لشخصية «الزير سالم» يقول: «الزير سالم، رمز وبطل، ولكنه تهور وطغى وتجبر عندما أراد أن يعود كليب حيا، وان يفني جميع القبائل من أجل شخص واحد، صحيح المشاهد العربي أراده أن يموت وهو على صهوة حصانه، ولكن نهايته الحقيقية هكذا كما دونت، وليس كما نسمع من حكايات (جداتنا)».
وأضاف: إن أفضل ما عبر عنه المسلسل هو إنسانية الإنسان، في خيره وشره، بجهله وحماقته وغضبه وفرحه وأحزانه، في خطئه وصوابه، وابتعاده عن الحالة الأسطورية.
وكما أكد سلوم حداد فإن قصة مسلسل الزير سالم ليست إلا «لمحة لحظية على الواقع العربي بكل تلك التجليات والأبعاد والجوانب والتصدعات الموجودة في جسد الأمة المثخن بالجراح، والتي لم يتوقف نزفها منذ أمد بعيد ولربما يمتد إلى أمد بعيد أيضاً».
ينهض مسلسل الزير سالم، الذي أخرجه الفنان حاتم علي، على اسطورة الثأر الذي لا يرحم لكليب وائل، شقيق المهلهل، ضد جساس وقومه بني مرة من بكر، رغم أنهم أبناء عمومة، ورغم أن الجليلة، زوجة كليب، هي أخت القاتل جساس.
يبدو من سياق الحكاية التراثية المتداولة أن البسوس وناقتها هي سبب الفتنة فيما يرى المسلسل المعاصر وإسناداً الى حقائق التاريخ أن السبب الحقيقي هو طغيان كليب(ملك العرب) بعد انتصاره على تبّع اليماني ثم ليقوم بمنع كل من هو من غير قبيلته من الرعي في حمى مملكته، بغير إذنه.. مما أضر بأبناء عمومته وأذلهم وأعطش حلالهم وخيلهم.. فكان أن ثار جساس وقتل كليب، فيما استجاب الزير لوصية أخيه القتيل «لا تصالح».. معيداً انتاج طغيان كليب.. لتندلع بعدها حرب ضروس لم تبق ولم تذر.
لقد انحاز النص الدرامي الى جانب الحارث بن عباد الذي الذي سعى للصلح، قبل اندلاع الحرب والتورط في فعل الانتحار الجماعي، مخيّراً المهلهل بين عدة حلول مرضية، غير أنه رفضها جميعاً، وأصر على الحل المستحيل الذي طلبته اليمامة ابنة كليب: (أن يعود كليب حياَ) فكان أن ذهب الى منتهى الظلم والقسوة حين أقسم بأنه سيقتل بكل قطرة دم من كليب بكرياً، فينسحب ابن عباد من ساحة الاقتتال معلناً أنه لن ينضم إلى حرب الأهل مع الأهل، وكما قال لسالم: «إنك لن تجدع إلا أنفك ولن تقطع إلا كفك، هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل».. فكان أن دمرت حرب البسوس قبيلتي أبناء العمومة، بكر وتغلب.. وما حدث هو بالضبط ما أصاب الجليلة التي ولولت متحسرة على فقد الخليل (الزوج كليب) وقتل الاخ ويتم الولد (الجرو) وحزن الابد.
إن المسلسل لم يكن مسكوناً بهاجس تقديم الحكاية التراثية التاريخية بل سعى من خلال الدلالات والرموز والإشارات، سواء على مستوى دلالات الرؤية البصرية أو على مستوى الدلالات اللغوية، الى تقديم رؤية متكاملة عن الواقع العربي الراهن ومسلسل حروبه الداخلية.. فيما يتهدده أبرهة الاشرم من الجنوب والفرس والرومان من الشمال.. (هل نحتاج بعد كل هذا أن نستبدل الاشرم بشارون، والفرس والرومان ببوش والأميركان)؟!.
ملاحظة:
هذه القراءة المعاصرة التي طرحها الثلاثي ممدوح عدوان وحاتم علي وسلوم حداد من خلال الزير سالم نجدها تتكرر في قراءة معاصرة ثانية، للسيرة الهلالية واسطورة أبو زيد الهلالي، ولكن هذه المرة بتوقيع سلوم حداد وباسل الخطيب ود. محمد معتوق. وهذا المسلسل يحتاج الى وقفة خاصة قادمة.
[email protected]