خدمة الدفع الالكتروني
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

صورة البطل في قصص مؤنس الرزاز... «مجموعة النمرود نموذجاً»- حسن عبد الفتاح ناجي

صورة البطل في قصص مؤنس الرزاز... «مجموعة النمرود نموذجاً»- حسن عبد الفتاح ناجي

طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ

مدخل:- مؤنس الرزاز، مبدع ذو ثقافة سياسية لم يقيدها تعصب حزبي فقد كانت تدور في فضاء عروبي وأنتجت لنا نتاجات مختلفة الأسماء في أنواعها الأدبية متجانسة في طرحها وأداء وظيفتها، فهو القاص والروائي وكاتب المقال اليومي والدارس لقضايا أمته والمترجم.
غياب مؤنس دفعني إلى كتابة هذه المقدمة القصيرة الموجزة حول شخصيته ومن حقه عليّ أن أذكر صورته عندي قبل أن ألج إلى صور أبطال قصصه.
«النمرود» مجموعة قصصية خرجت بطبعتها الأولى عام 1980 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وقد اشتملت على ثلاث عشرة قصة قصيرة تتقارب في عدد صفحاتها إذا استثنينا القصة الأخيرة «زوربا العربي»- ونلاحظ إشارته تحت عنوان كل قصة إلى تاريخ نشرها أو كتابتها فهناك ست قصص نشرت عام 1979 وخمس قصص عام 1980 وقصة واحدة عام 1978 والأخيرة تركها دون تاريخ مما يدل على أن القصص جميعها قد كتبت في مرحلة واحدة من مراحل إبداعه القصصي ومن المعروف أن هذه المجموعة هي المجموعة القصصية الثانية لمؤنس الرزاز إذ أصدر قبلها مجموعتين تحمل الأولى عنوان «مد اللسان الصغير في وجه العالم الكبير» عام 1975 والمجموعة الثالثة والتي تحمل عنوان «البحر من ورائكم» عام 1978 والمجموعتان صدرتا من بغداد حين كان يقيم هناك مع عائلته وبذلك تكون مجموعة «النمرود» هي ثالث وآخر مجموعاته القصصية إذ لم يكتب بعدها قصة قصيرة واحدة وعكف على كتابة الرواية والمقال السياسي الاجتماعي اليومي في صحف أردنية وقام بترجمة بعض الأعمال الأدبية مشاركة مع زميله آلياس فركوح مع أنه ترجم «قاموس المسرح» في وقت مبكر.
القصة القصيرة.. مفهوم ودور:
لم تسلم القصة القصيرة من الباحثين في اصطياد تعريف خاص بها لذا فنحن نقرأ كثيراً من التعريفات لهذا الجنس الأدبي نرى أن بعضها قد قصّر في رؤيته وبعضها أسهب في الحديث حتى خرج عن دائرة التخصيص، وقد وجدت في كتاب «الوجيز في دراسة القصص» تعريفاً وسطاً بين هذه التعريفات وهو «القصة القصيرة سرد نثري خيالي يجسّد تغييرات في علائق بشرية، ويستمد المؤلف مادته من تجربته في الحياة وملاحظته لها غير أنه ينتخب مادته ويصوغها وفق مقاصده» وبيّن لنا الكاتب مفهومه للتجربة والملاحظة الدقيقة لحركة الحياة وتغيّر صورها الاجتماعية والفكرية والسياسية وأن الكاتب لا يصوغ عمله القصصي إلا بقصد فيقول «التجربة الحسية لعالم الواقع ليست إلاّ نوعاً واحداً من المادة الخام للمؤلف أما النوع الآخر فإدراكه ما تعني الحياة» وأرى أن المبدع يحاول تبسيط التجربة حتى يتمكن المتلقي من استيعابها وبالتالي يحدث التأثير والتأثر وهذا ما يريد أن يصل إليه المبدع فتفاعل المتلقي مع عمله رغبة يسعى إليها المبدع لأن التفاعل لن يتم دون فهم وإدراك.
إن كل قصة قصيرة تمثل علاقة ما بين كاتبها والحياة، وأن هذه العلاقة تعكس رؤية خاصة« وأظن أن مثل هذه المقولة تنطبق على مجمل الأنواع الأدبية فالشعر والمسرح واللوحة الفنية كلها تمثل علاقة بين المبدع والحياة وتحمل رؤية خاصة به وهذه الرؤية تصور موقفه أو حكمه الخاص، من هنا تكون طبيعة العلاقة بين المبدع والحياة صورة حقيقية لتفكير المبدع ذاته، فتكون هذه العلاقة ممثلة تمثيلاً واضحاً لدور العمل الأدبي.
وأنا أرى أن العمل الأدبي بكل أنواعه وأجناسه ليس استنساخاً لأحداث الحياة وصورها اليومية وليس نتاجاً معاداً للحياة نفسها أو معالجة لأمراض المجتمع وذكر وصفة أدبية لهذه الأمراض فالعمل الأدبي يؤدي أو مطلوب منه أن يؤدي أكثر من دور فهناك الدور الفكري والفني والاجتماعي والثقافي، إنه يشكل في مجموعه الهوية الثقافية والفكرية للمجتمع.
وعن دور القصة القصيرة يقول إحسان عباس: «لا أحد يجادل في أن القصة القصيرة لا تستطيع أن تستوعب المشكلات والقضايا الكبرى. فهي ليست الشكل المهيأ لمثل تلك الموضوعات» وهذا القول أظن أن به بعض الظلم لدور القصة القصيرة فإذا كان رسم الكاريكاتير المكوّن من خطوط بسيطة يستطيع المشاركة في صياغة هويته الوظيفية في الأحداث الكبيرة والصغيرة فكيف لا تستطيع الألفاظ والكلمات أداء دورها في المشكلات الكبرى وإن كان دورها ليس محصوراً في ذلك، ونرى عباس يرد على مقولته تلك بقول د. شاهين الذي يثبته بعد قوله تماماً «ليس ثمة كاتب عربي في العصر الحديث يستطيع أن يتجنّب القضايا العامة التي تؤثر في حياته اليومية على نحو مباشر» ويذكر إحسان عباس تكملة لهذا القول «وبالتالي فإن كاتب القصة القصيرة لا بدّ أن يحسّ تلك القضايا».
البطل في القصة القصيرة:
«البطل كما هو معروف ليس محض افتراءٍ إنه إفراز منطقي للحظة تاريخية بعينها، تحتم ولادته لكي يحقق عنصر التصادم الاجتماعي وشخصية البطل في القصة لا تلغي الشخصيات الأخرى سواء كانت ثانوية أو أولية فشخصيته تنمو من خلال مجموعة العلاقات الاجتماعية والفكرية مع الشخصيات الأخرى فهي ليست عاملاً مساعداً في القصة بل هي ضمن النسيج الفني والدرامي لها، فإذا كان المبدع القاص يتكئ على الشخصيات الثانوية لتوضيح صورة بطله فإن هذه الشخصيات تثور عليه وتؤدي دورها من خلال المقولة أو الافتراض العكسي وهو لو لم تكن هذه الشخصية أو تلك كيف سيكون مسار القصة وما هو دور البطل في غياب من حوله، من هنا لا نستطيع أن نلغي دور أيّة شخصية مهما قلّ دورها لأنها تساهم في رسم ملامح شخصية البطل ورسم حوادث القصة رسماً درامياً متنامياً، وليس بالضرورة أن يكون البطل أو الشخصيات أناساً يتحركون داخل الحدث الدرامي بل يمكن الحديث عنهم بغيابهم المطلق أو يمكن أن يأخذ المكان أو الزمان دور البطل أو دور شخصية مكملة لدور البطل إضافة إلى أن هناك أبطالاً من الحيوانات والأشياء كما في رواية «ما تبقى لكم» لغسان كنفاني فالساعة والصحراء أبطال يتحركون في سياق الخط الدرامي «وإن فهمنا ومعرفتنا لأدوار الشخصيات يوضح لنا فهمنا للفعل القصصي فحوى القصة» أما البطل فيشكل لنا وللمبدع المحور الرئيس الذي تدور حوله القصة وهو عادة يقدّم لنا من خلال صوت المؤلف نفسه بحيث ينصّب المؤلف نفسه راوياً للأحداث وأحياناً يقدّم لنا هذا البطل من خلال إحدى الشخصيات المتحركة في القصة، وفي كلا التقويمين يصل إلينا البطل كما أراد له القاص أن يصل ونحن نتعاطف معه حين نشعر أنه يمثلنا ويجسّدنا تماماً «فإن عرفنا أن في البطل مشابهة قوية لنا أو إذا كانت ظروفه ومعضلاته تشبه ظروفنا ومعضلاتنا قرأنا أنفسنا به».
إذا كانت القصة القصيرة لا تحتمل عدداً كبيراً من الشخصيات كما هو الحال في الروايات فإن هناك بعض الظروف الخاصة بقصة ما تدعو القاص أن يستحضر أكثر من شخصية فمثلاً إذا كان يتحدث عن نزلاء فندق أو معلم في مدرسة تدور القصة حول علاقته بالطلاب فإن ذلك يوجب عليه استدعاء عدد من الشخصيات لضرورة الموقف الدرامي وهذا ما سوف نلحظه عند مؤنس الرزاز في قصصه بمجموعته «النمرود».
أبطال مجموعة «النمرود»:
أصبح من المألوف أن يختار المؤلف عنواناً لكتابه مستعيناً بأحد عناوين المجموعة القصصية وهذا ما حصل مع مؤنس الرزاز حين اختار اسم القصة الأولى عنواناً للكتاب ونجد ذلك عند الشعراء حين يختارون عنوان إحدى القصائد عنواناً للديوان، ولنبدأ بالتعرف على شخصيات وأبطال قصصه الثلاث عشرة في المجموعة بشكل منفرد وبعد ذلك يتم المزاوجة والربط بين الأبطال سلوكاً وتركيباً.
«النمرود»:
البطل هنا دون اسم ولكنه يحمل لقباً يتسع لكل أنواع السلوك البشري سلباً وإيجاباً وهو «النمرود»- وقد بيّن القاص أين تكمن نمردة- هذا البطل من خلال عدّة مواقف نستطيع أن نتبين منها الصورتين السلبية والإيجابية.
«قال أبوه بصوت متهافت: النمرود لا يبكي» فالنمرود عند الأب والأم عصي على الدمع وهو قادر على كبح جماح انفعالاته وإذا ما ترجمها فهو لا يترجمها دموعاً بل سلوكاً يليق بنظرة الناس إليه، وهذا الأمر يعرفه الجميع في الحي حتى أنهم يتراهنون على بكائه وإنه لن يبكي إلاّ أمام زوجته أو أمه، لكن الشعور العام عند أهل الحي هو الخوف من إطلاق سراح النمرود.
«صحيح أنه قبضاي وشهم، لكنه متهور وعنيد أيضاً وقد تكون عودته إلى البلدة فاتحة مصائب».
هذا الخوف المتولد في نفوس أهل الحي من النمرود مردّه بالتأكيد سلبية سلوكية نحوهم حتى أن أحدهم يصفه «يقولون إنه متخلف عقلياً، لكنه قوي كثور».
هذا الوصف الجارح لشخصية النمرود فيه كثير من المبالغة مبعثها الخوف من بطشه وهيجانه في حالة الغضب لكنه في صورة أخرى داخل السجن مختلف تماماً، إنه يطالب بجدار السجن لأنه قد كتب عليه مذكراته وبعض أشعاره وشتائمه مستخدماً عود الثقاب في الكتابة ولا يرضى بأن يعيد الضابط كتابة كل ما على الجدار على دفتر خاص لأنه يريد الأصل وليس نسخة بديلة، هذه الصورة تتماوج فيها صورة الطفل الذي يستخدم الجدران دفاتر لمشاغباته وصورة الثوار والأحزاب الذين يستخدمون الأسوار لتعليق ملصقاتهم ثم صورة الشاعر الذي يرى في شعره ما لا يراه الآخرون فهو يريد الأصل بل يصّر على عدم الخروج من السجن وهي فرصة لملاقاة الحرية بدون الجدار: «أريد أن أصطحب الجدار»
إضافة إلى هذه الصورة نرى النمرود بكامل إنسانيته حين يكون وحيداً بعيداً عن أعين الناس.. إنه لا يريد أن يراه أي شخص وهو يبكي لأن البكاء عار، هكذا تعلّم وهكذا يرى الآخرون ذلك، إن ثقافة المجتمع الذي نصّب هذا الرجل نمروداً لا نريده أن يبكي، لكنه إنسان بكل ما تعنيه هذه الكلمة: «ولج الدار.. انفتل صوب الحمام، دخل، أقفل الباب وراءه بعناية، ثم انهار ساجداً ضارباً رأسه بالجدار، غطى وجهه بكفيه واستسلم لبكاء طويل».
قبل أن يخرج النمرود لملاقاة الناس والأهل غسل وجهه وخرج بكل شموخ ومشى أمام الجميع حتى أن والده أشار إلى جبروت ابنه وأنه لم يبك أبداً ولن ير أحد الدمع في عينيه والذين تراهنوا على ذلك قالوا بأنهم قد خسروا الرهان: «قال أحد الجلوس: خسرنا الرهان، لم تنسكب من عينيه دمعة».
شخصية النمرود هي محور القصة والدمعة الصامتة في عينيه هي مفتاح هذه الشخصية، وهذا النمط من الشخصيات يصرخ في وجوهنا طالباً منّا أن نرحمه من عذاب المكابرة ولعنة النمردة، إنه يريد أن يكون مثلنا، يبكي ويكتب الشعر والمذكرات ويشتم من يريد ساعة يريد، إنه إنسان يريد أن يكسب إنسانيته بدمعة صارخة أمام الجميع، إنه يريد أن يصرخ بنا: و«أنا أبكي أيضاً» لكنه يخاف من نظرات الآخرين.. تلك النظرات التي سوف تعيب عليه هذه الحفنة من الدموع، إننا نسرق إنسانية غيرنا حين نطالبه أن يكون مثلما رسمناه وليس مثل ما يريد.
«النمرود» قصة تحكي مأساة إنسان لا يستطيع أن يعبّر عن مشاعره الإنسانية، وفي القصة تدخل شخصيات متعدّدة لتكمل لنا رسم هذا البطل المعذب فالأب والأم والزوجة يتحركون في الإطار الإنساني حول النمرود فهذه الأم تدرك تماماً أن ابنها سوف يبكي لكنها تعرف تماماً أنه لن يرضى أن يرى الجميع ذلك، فها هي تحضر معها نظارة سوداء لتحجب الدمعة عن عيون الآخرين.
«أحضرت له معي نظارة سوداء، كي تخفي دمعه إن انفعل وبكى» بينما الأب يرى ما لا تراه الأم فهو يعيش بمجتمع ذكوري ويدرك تماماً أن ابنه لن يبكي، ولو كانت بنتاً لسمح لها أن تبكي لأن البكاء يفرّج الهم، لكنه أمام ابنه وأي ابن انه النمرود الذي يخافه كل أهل الحي فكيف يبكي، من هنا يأتي في رده على قول الأم «النمرود لا يبكي».
وهذا القول ليس للاستهلاك أو مراعاة مشاعر الأم، بل هو قناعة عند الأب فتسمعه في نهاية القصة يلتفت إلى الجميع ويقول مفتخراً:
«ألم أقل لكم إن النمرود عصي على الدمع، انظروا شموخه» أما الزوجة وهي أكثر الأشخاص التصاقاً بهذا النمرود وأكثر الناس دراية بما يعانيه ويحس به، فإنها حين رأت النمرود خارجاً من الحمام بعد أن بكى وغسل وجهه من الدموع لاحظت أثر الدمع وإن حاول النمرود إخفاءه فاستراحت لأن زوجها قد بكى، إنها تدرك جيداً الإنسان الذي بداخل هذا الزوج العظيم: «أخيراً، ذرف لي دمعة».
وهي وإن جيّرت هذه الدمعة لصالحها كزوجة في الوقت الذي بخل فيه على والديه فإنه تكرّم عليها بدمعة ليقول لها اشتقت إليك، لكن هذا التجيير لا يلغي معرفتها بإنسانية ورومانسية هذا النمرود.
بقية الشخصيات جاءت هامشية من ضمن بناء الحدث الدرامي منها الضابط وبعض أهل الحي الذين يتراهنون على بكاء النمرود، وهذه الشخصيات على هامشيتها فإنها تدخل في ملامح الأحداث وفي رسم شخصية النمرود.
«الفارس المدجّن»:
في هذه القصة بطلان يتنازعان الأدوار ويملكان مساحة الأهمية نفسها في صياغة الأحداث وهما متداخلان في الحركة مختلفان في الاتجاه، الشخصية الأولى متعب القحطاني والثانية الصبي وهناك شخصية ثالثة تمثل مساحة صغيرة من تغيّرات الأحداث وهي مريم أخت الصبي، ونلاحظ هنا أن القاص قد تعمّد في هذه القصة أن يكشف اسم البطل الرئيس ويخفي اسم البطل الامتداد الصبي- وكأنه يريد أن يقول لنا إن هناك نماذج من البشر مثل متعب القحطاني سيكون لها امتداد لا تحديد لتفاصيل الشخص الذي سوف يكونه وهو هنا الصبي.
متعب القحطاني رجل شرير يمارس شغبه وخروجه على القانون أمام الجميع وكأنه صاحب قرار لا يستطيع أحد دفع قراره، فإذا ما نزل المدينة سكت كل شيء فيها: «وسرعان ما سكتت أبواق السيارات، وخمد الصخب، وذوى اللغط، وخبا الضجيج، تسمّر المارة، تهدّلت أذرعهم وسقطت من أيديهم البضائع والمشتريات، وقفوا كالمسحورين، ترجّل ركاب السيارات في حذر وفزعوا إلى الجدران المحاذية يلتصقون بها».
هذه الصور المتلاحقة لوصف حالة كل من رأى متعب القحطاني تدل على قوة بطشه وجبروته وتشير إلى أنه شخص معروف في المناطق التي يزورها وقد نظن أن ما من إنسان يمكن أن يكون معجباً بمتعب، لكن الصبي الشخصية الثانية في القصة معجب به ويتمنى لقاءه بل يسعى إلى ذلك ويتصيّد الفرص حتى يذهب إلى ملاقاته والصبي أعد الكثير الكثير لمتعب القحطاني عند اللقاء فهناك رسومات كثيرة قام الصبي برسمها وأشعار كتبها كان الصبي يرى في متعب المنقذ من مشاكل يومية كثيرة تحدث في البلدة فمثلاً: «سأشكو له معلمة الرياضيات وقسوتها».
شخصية متعب القحطاني لا تتنامى درامياً في القصة لكنها تنطفئ تدريجياً إذا صح التعبير فهي تبدأ ساخنة ومرعبة بحيث نستمع إلى لهاث الأرصفة والشوارع تحت وقع أقدامه والصمت المخنوق في حناجر الناس والرعب الذي يسكن عيونهم ويلجم تحركاتهم ولكنها تنتهي إلى نقطة باهتة جداً ومناقضة تماماً لصورتها الأولى، فبعد أن صوّر القاص هلع المارة الذي يدل على ما يتصف به متعب من جبروت ووحشية فها هو يصف لنا لقاءه بالصبي ليكمل لنا صورة متعب القاسية في طباعها فحواره مع الصبي فيه الكثير من الجلافة وعدم اللياقة فالصبي يتقرب إليه بالصور والشعر والمحبة وهو يبتعد عنه تسبقها عبارات وصفية من القاص نفسه:
«سدّد بصره نحو الصبي وقال: «ألا تخافني».
«شهر سيفه وقد اشتد بريق عينيه، وهذا ألا تخافه».
«وقال بصوت قاتم: أنا لا أريد محبتك».
ما قاله متعب فيه دلالة على كلام الصبي أولاً ودلالة على قساوة طبعه، هنا اكتملت صورة متعب تماماً كما أرادها القاص، فإن ما أصاب المارة والركاب من خوف يعكس صورة خارجية لمتعب بينما كلامه وإجاباته لصبي يتودّد إليه يعكس الصورة الداخلية لهذا الرجل الجلف خاصة حين يختم حديثه مع الصبي «أنا لا أتوسل حباً.. أنشد محبة».
بعد اكتمال الصورة المرعبة لهذا المخلوق يأتي سؤاله للصبي ودون مقدمات لينقلنا إلى صورة جديدة لمتعب جاءت نقيضاً لما سبق ودون مبرّر يذكر فمتعب فجأة يأنس بوجود الصبي ويكشف عن احساس جديد داخله وهناك هوة بين الاحساس الجديد وبين ما سبقه لم يستطع القاص ردمها أو التغاضي عنها فهو يسأل الصبي:
«هل يعلمونكم العزف على البيانو في المدرسة؟».
فالسؤال هنا عن العزف من شخصية قاسية أمر مستغرب خاصة إذا لاحظنا أن السؤال هو عن البيانو بالذات ونحن نعلم أن البيانو آلة عزف عادة تكون من محتويات أثاث الأغنياء فقط وبالتالي فقليل من عامة الناس من يعرفونها أو قل من يطرب إلى سماع العزف عليها ويزداد استغرابنا إذا تابعنا معاً السؤال الثاني خاصة بما سبقه من وصف من قبل القاص «اتقدت عينا متعب وسأله بلهفة: وهل تجيد عزف الموسيقى الكلاسيكية».
أية ثقافة موسيقية هذه عند رجل مثل متعب القحطاني وأي تغيير هذا في سلوكه وانفعاله وما المبرر لذلك إن ما أصاب القارئ من هذا التغيير أصاب الصبي نفسه:
«اضطربت الحيرة في عين الصبي وقال: أفضل الناي والربابة وأريدك أن تعلمني العزف عليها».
حقيقة لا أجد مسوغاً لهذا التبدل عند متعب، فإذا كان النمرود في القصة الأولى بكى بكاء حاراً فهناك أكثر من مسوغ لذلك خاصة إذا تابعنا حواره مع الضابط من أجل الجدار، والبكاء هناك مشروع فالموقف إنساني تماماً سبقته عواطف عائلية، أما هنا فالموقف غير إنساني، إنه حوار مقطوع عما قبله لأن ما جاء قبله هو عبارة عن حوار يرسم قساوة طبع الرجل خاصة، وأن هذا الحوار جاء على لسانه هو وذلك رداً على صبي يتودد إليه ويعرض حبه ومحبته وأشعاره ورسوماته، ثم فجأة يسأل متعب مثل تلك الأسئلة، من هنا أرى أن شخصية متعب لم تتطور مثلما تطورت شخصية النمرود فالنمرود في أذهان الناس مرعب وقوي كثور لكنه «شهم» من هنا ومن كلمة «شهم» دخل القاص ليحرك فيه إنسانيته إلى درجة سمح له بالبكاء المر منفرداً داخل حمام، أما متعب فقد رسم المارة والركاب صورة أكملها هو بحواره مع الصبي ومثل هذه الصورة يمكن أن تتطور إلى أكثر من ذلك وليس هناك مبرر واحد لتراجعها إلى مواقف هادئة ودافئة لتصل إلى السؤال عن البيانو والموسيقى الكلاسيكية وقد كان من الممكن أن يهتم متعب بالصور مثلاً خاصة أنها تمثله هو وبالشعر المكتوب عنه لكنه يطلب غير ذلك: «سئمت الربابة والناي».
من هنا تبدأ صورة متعب الأخرى المغايرة لصورته الأولى وهنا يبدأ التنافر بينه وبين الصبي فحين نستمع إلى الصبي، نرى أن من ملامح شخصية متعب التي أعجبته أن القحطاني يعيش في الصحراء مع الطبيعة ولا يحب الاستقرار ويميل إلى كل ما هو بسيط وطبيعي، وهو فارس قوي شرس يخيف الناس ويبحث عن هيبته في إخافة الآخرين ويرفض محبة الصبي لأنها ضد الهيبة. كل هذه الملامح أثارت إعجاب الصبي بمتعب، وبسقوط هذه الملامح واحدة تلو الأخرى سوف تسقط صورة متعب عند الصبي ويسقط مبرر الإعجاب به ونرى واضحاً تصرف وكلام الصبي هذا السقوط فالدهشة تأكل ملامح الصبي وهو يستمع إلى متعب: «اضطربت الحيرة في عيني الصبي».
«أجاب الصبي بضيق»
«غشت على عيني الصبي غمامة سوداء»
نلاحظ ان مثل هذه التعابير ملازمة لكلام متعب مع الصبي حول البيانو والصحراء والتدفئة المركزية، بينما لا نجد أي ضيق لدى الصبي حين خاطبه متعب بجلافة وصلابة لأنه يريده كذلك وأصرّ على منحه حبه واهتمامه بينما نرى الصبي حين يستمع لمتعب يتحدث عن الاستقرار والتدفئة المركزية والسرير الوثير بدلاً من رمل الصحراء نراه مستغرباً بل محبطاً منكسراً فقد اهتزت صورة البطل أمامه. انه لا يريد أن يرى بطله إلاّ كما تصوّره، وتلازم هذه الانفعالات الصبي حتى يصل في النهاية إلى نقطة يضع فيها حدّاً لهذا التساقط المريع وغير المنطقي لمتعب.
شخصية متعب الجديدة أتعبت الصبي وأراحت صاحبها، وتبدأ خيوط حبكة القصة لتكمل ملامح الصورة الجديدة كما حاولت سابقاً أن تكمل ملامح الصورة الأولى فمتعب ينزل ضيفاً عند الصبي ويحب أخته مريم ويتنازل عن كل مقوماته كفارس (الجواد، السيف، البندقية) مقابل أن يزوجه الصبي أخته مريم ويظهر لنا شغفه بأفلام الكابوي كل ذلك ليصل إلى صورة مغايرة للصورة الأولى، وإذا أمعنا بالحوار داخل البيت بين الصبي ومتعب نستغرب جهل متعب بالتلفزيون ومعرفته بالبيانو والموسيقى الكلاسيكية فهو يسأل الصبي:
«هل يوجد عندكم هذا الصندوق السحري الذي تظهر فيه وجوه الناس».
ورغم هذا الجهل باسم التلفزيون والمعرفة بالتدفئة المركزية فإنه حين يجلس أمام هذا الجهاز يطلب من الصبي أن يديره ليرى ما بداخله وكأنه مجرد أن عرف اسمه عرف وظيفته.
يوفق القاص بتتبع انقلابات متعب النفسية والسلوكية ليدفع بالصبي إلى قتله في النهاية حتى تبقى صورة البطل التي رسمها بذهنه والتي كانت حقيقة كذلك باقية، فالصبي مقتنع أنه قتل متعب الجديد الذي لا يريده ليبقي على متعب الصورة البطل، وخاصة في الموقفين الأخيرين السابقين لحالة القتل الأول في هذا الحوار:
«-ماذا أقول لأقراني الذين حدثتهم عنك
-هذه مشكلتك... لماذا لا تدير التلفزيون».
أما الموقف الثاني فقد صوّره القاص تصويراً دون الحاجة إلى أي حوار بين الاثنين، وكأنه يعلن عن سلوك كل واحد منهم منفرداً، فمتعب مستلب تماماً أمام شاشة التلفاز والصبي مستفز تماماً أمام هذا المنظر وما بيده سوى قتله:
«كان متعب القحطاني يشاهد حلقة من حلقات مسلسل ماكلاود وكان يضحك بصخب وفجأة دوى طلق ناري».
  بعد ذلك يعلن الصبي أمام أخته مريم بصوت عالٍ أن من مات هو متعب الجديد أما متعب القديم فهو شهيد: «صرخ الصبي في وجه أخته: متعب القحطاني شهيد عظيم».
تتنازع الشخصيتان الرئيسيتان في القصة الأدوار والحركة وهما متعب القحطاني والصبي، ونرى أن الصبي كان في كل سلوكه حسب ما رسمه القاص نموذج الشخص المؤمن بشخصية متعب ويود الاحتفاظ بها قبل أن تتلوث أما الشخصية الثانية متعب- فقد ارتسمت في دورين متناقضين ربما أستطيع القول إن اسم القحطاني مقصود من قبل القاص وذلك إشارة إلى (قحطان) جد العرب وكأن الحضارة الجديدة سوف تلوث هذا العربي البدوي ولكن ما يعتمل في نفس متعب من رغبات قوية نحو الاستقرار والزواج والتدفئة المركزية والبيانو كان دافعاً لكل سلوك خاطئ وهذا ما أراد أن يقوله القاص غير المنطقي من بيئة إلى أخرى سوف يؤدي إلى الفشل والموت الحقيقي.
تلعب شخصية مريم شقيقة الصبي دوراً ثانوياً، فهي لا تتدخل مباشرة بأحداث القصة وسيرها لكن وجودها هو الذي دفع بمتعب للتفكير بالزواج، وحوارها مع متعب يمنحه رغبة قوية بالبقاء والاسترخاء والتكيف مع الحياة الجديدة بينما شخصية المرأة في قصة «النمرود» نراها أكثر فاعلية، فالأم تحضر نظارة سوداء حتى لا يرى الناس الدمع في عيني ولدها، والزوجة تركن إلى حبه لها عندما عرفت أنه بكى أي توازن مع إنسانيته.
إن النمرود يمثل شريحة كبيرة من المجتمع وهو مشدود إلى مجتمعه بمفاهيم وعلاقات تؤثر في تصرفه بالقدر الذي هو مشدود به نحو ذاته وإنسانيته، وإذا كان لا يستطيع ممارسة مشاعره الخاصة حفاظاً على الصورة المرسومة عند الآخرين الا انه قادر على تفجيرها. وفي القصة موقفان ينحاز فيهما النمرود إلى إنسانيته فالموقف الأول في السجن وحواره مع الضابط حول الجدار/ اللوحة فهو يدرك تماماً أن والده والضابط سوف يعتقدان أنه مختل عقلياً فالطلب الذي يطلبه لا يمكن تلبيته، لكنه متأكد أن ما يطلبه يحقق له ذاته ووجوده وإنسانيته فالجدار يحمل بصمته الحقيقية وشخصيته الحقيقية وهو حريص على الاحتفاظ بهذه الهوية (مذكرات أشعار، شتائم) والموقف الثاني لم يستطع مواجهة الآخرين به بل واجه نفسه حين دخل الحمام وبكى، هذان الموقفان حملا ملامح شخصية النمرود الحقيقية وليست تلك التي يراه فيها الناس. أما شخصية متعب القحطاني ففيها صورتان منفصلتان تماماً لا ملامح ولا إشارات لترابطهما ومن هنا كان فشل الشخصيتين والحكم عليهما بالموت وذكر الاسم هنا كما قلنا له دلالته كما أن غياب الاسم هناك له دلالته.
يبقى أن نقول إن مؤنس الرزاز كان يدرك تماماً ما يريد من شخصياته وكان يسيّرها كما يريد، ضابطه في ذلك حوارات متوازنة ووصف دقيق للحالة النفسية وصياغة أحداث منطقية، أما شخصياته الثانوية فهو حريص أيضاً على أن تقوم كل شخصية بدورها لبناء الحدث الدرامي ويدرك تماماً متى يسمح لها بالدخول والتأثير ومتى يطلب منها الخروج فمريم مثلاً كانت تعد العشاء حين أقدم الصبي على قتل متعب والزوجة والأم لم تدخلا السجن بل دخل الأب ليسمع حديث النمرود مع الضابط.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF