خدمة الدفع الالكتروني
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

«عائد إلى حيفا».. الإنسان والمكان

«عائد إلى حيفا».. الإنسان والمكان

غسان كنفاني
u063au0633u0627u0646 u0643u0646u0641u0627u0646u064a
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ

د. شفيق طه النوباني

ما زالت رواية «عائد إلى حيفا» للروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني تحتفظ بجاذبيتها للقراءة وإعادة القراءة بعد مرور أكثر من أربعة عقود على كتابتها، فهي رواية الثوابت المبدئية في تعامل الإنسان الفلسطيني والعربي مع قضيته على الرغم من كل الأحداث التاريخية التي مرت بعد هزيمة 1967، حيث تبدو هذه الثوابت بصورتها اليقينية التي لم تتأثر بعوامل التاريخ على الرغم من كونها تفاعلاً مع واحد من أكثر الأحداث التاريخية إثارة للإحباط في ذات الإنسان العربي.
وهذه الرواية هي رواية الارتباط المصيري بالأرض والاستيعاب الصادق لمفهوم الوطن. والمراجع لهذه الرواية سيجد العديد من الظواهر الفنية والفكرية التي تستحق التأمل والمراجعة.
يشير العنوان «عائد إلى حيفا» إلى علاقة الإنسان بالمكان من خلال المشهد العام في الرواية، حيث تظهر شخصية «سعيد س» في عودتها غير الميمونة إلى حيفا، فهي عودة تشير إلى خروج الطرف الذي ينتمي إليه «سعيد س» بوصفه خصماً، من معادلات العدو، فها هي بوابة مندلبوم تفتح بإرادة الكيان الصهيوني للفلسطينيين الذين يقيمون في أراضي 1967.
لقد برز المكان بوضوح في «عائد إلى حيفا»، غير أن الظاهرة التي تستحق الالتفات في هذا السياق أن وصف المكان لم يكن خارجياً، حيث يتوقف الراوي على تفاصيله وموجوداته، بل جاء من خلال تعامل شخصية «سعيد س» معه: «وبعد قليل اكتشف أنه يسوق سيارته في حيفا دون أن يشعر بأن شيئاً في الشوارع قد تغير. كان يعرفها حجراً حجراً ومفرقاً وراء مفرق» (عائد إلى حيفا، منشورات الرمال، قبرص، ط2، 2015، ص9). والأغلب أن تفاصيل المكان هذه جاءت من خلال امتداد إنساني واضح لها: «وكانت أشجار السرو الثلاث التي تنحني قليلاً فوق الشارع قد مدت أغصاناً جديدة، ورغب أن يتوقف لحظة كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن» (ص26).
جاء هذا الامتداد الإنساني للمكان ليشير إلى الارتباط العضوي بين الإنسان الفلسطيني والمكان الفلسطيني، وهو امتداد لا ينفصل عن الحق الفلسطيني في العيش في المكان، ليقوم بإزاء هذا الحق سؤال بدهي عن طبيعة إحساس المحتل تجاه المكان. وقد بدت هذه العلاقة من خلال شخصيتين صهيونيتين في «عائد إلى حيفا»؛ شخصية «إفرات كوشن» وزوجته «ميريام».
بدت شخصية «إفرات كوشن» منفعلة بصورة كاملة بالدعاية الصهيونية، ففلسطين «بالنسبة له كانت مجرد مسرح ملائم لأسطورة قديمة، ما يزال يحتفظ بنفس الديكور الذي كان يراه مرسوماً في الكتب الدينية المسيحية الملونة المخصصة لقراءات الأطفال في أوروبا. إلا أنه بالطبع لم يكن يصدق تماماً أن تلك الأرض كانت مجرد صحراء أعادت الوكالة اليهودية اكتشافها بعد ألفي سنة» (ص39).
ولا شك في أن مثل هذه الشخصية لن تقيم أي اعتبار للإنسان الفلسطيني، ولن تشعر تجاهه بأي ذنب، بل إنه لم يبدِ أي انفعال مع زوجته إذ لفتت انتباهه إلى الطفل العربي الذي رماه جنود الهاغاناه في الشاحنة مثل حطبة (ص43). أما شخصية «ميريام» التي أقامت في بيت «سعيد س» فقد بدت بمظهر مختلف عن شخصية زوجها وإن لم تكن في أي حال تمثل نقيضاً لتلك الشخصية.
تعاطفت «ميريام» مع الطفل العربي الذي رماه جنود عصابات الهاغاناه في الشاحنة، وقررت العودة إلى إيطاليا، إلا أنها لم تنجح في إقناع زوجها بذلك (ص44)، فأقامت في منزل سعيد الذي أخذه زوجها من مكتب الوكالة اليهودية في حيفا. وكان من الطبيعي أن تشعر شعوراً مختلفاً إزاء المكان/ البيت بمجرد تعاملها مع أصحابه الحقيقيين: «وفجأة بدت محتارة. وأخذت تنظر حواليها، إلى الأشياء الموزعة في الغرفة وكأنها تراها لأول مرة... وسمع صوت العجوز، وقد صار الآن خافتاً وأشد بطئاً:
- أنا آسفة، ولكن ذلك كان ما حدث. لم أفكر قط بالأمر كما هو الآن» (ص31-32).
عاشت ميريام سنوات في منزل عائلة «سعيد س»، ولعلها لم تشعر بأي تأنيب للضمير في أثناء إقامتها في المنزل، غير أن موقف لقائها بسعيد كان مواجهة باردة مع إحساسها تجاه المكان، ففي هذا الحين فقط ظهر قلقها تجاه حقها في امتلاك المكان.
لم يحاول غسان كنفاني في «عائد إلى حيفا» أن يرسم صورة حدية للمجتمع اليهودي على الرغم من كل ما اقترفه بحق الإنسان الفلسطيني، فقد تبدت في شخصية «ميريام» مسحة إنسانية لم تبعدها عن خاصية البلاهة، التي تبدو خاصية حتمية بحكم انضوائها تحت هذا الكيان الغاصب.
خلال رحلته من رام الله إلى حيفا لم يتوقف سعيد عن تأمل الأمكنة، وحين دخل منزله الذي أُبعد عنه لم يتوقف وزوجته صفية عن تأمل أثاثه وتفاصيله التي لم تتغير، غير أن «سعيد س» حين خرج من المنزل بدت له الأشياء أقل أهمية مما كانت عليه حين دخل، وقد جاء هذا التغير في النظرة إلى تفاصيل المكان في إطار رسم صورة كليّة للوطن.
لو كانت الذكريات التي عاشتها شخصية سعيد تمثل الوطن لانتهى بمجرد موت الناس الذين عايشوا المكان، ولن يعود وطناً بالنسبة للأجيال اللاحقة، ولأصبح الوطن حقيبة إذا ما استعنّا بتعبير محمود درويش، غير أن كنفاني أراد أن يرسم صورة الوطن المثال التي تفوق الذكريات والأشياء الصغيرة: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله» (ص76-77). فالوطن هو الحالة التي يشعر من خلالها الإنسان أنه على استعداد تام للتضحية من أجله، ومن أجل استقراره فيه، فما حصل في النكبة والنكسة بعدها، وما حصل مع سعيد من ترك ابنه خلدون عنوة وإبعاد ابنه خالد عن المقاومة باختياره لا يمكن أن تتحقق من خلاله حالة الوطن التي لم تفترق عن الأرض.
ولكي يكتمل مفهوم الوطن في علاقته بالإنسان في «عائد إلى حيفا» جاءت قصة فارس اللبدة مع يافا لتمثل حكاية موازية لحكاية «سعيد س» مع حيفا، فالناظر في حكاية «فارس اللبدة» سيجد أنها تتسم باستقلالية تامة عن بقية الرواية، غير أنها جاءت لتتميم رؤيتها، ففارس اللبدة الذي جاء إلى بيته بعد فتح بوابة مندلبوم وجد فيه فلسطينياً استأجر البيت من الوكالة اليهودية، ووجد أن الرجل ما زال يحتفظ بصورة أخيه الذي استشهد على أرض فلسطين، وقد استجاب الرجل لطلب فارس بالحصول على الصورة، غير أن «فارس» لم يستطع أن يحتفظ بها، لأنه شعر أن احتيازها ليس من حقه، فأعادها إلى البيت في يافا.
أدرك فارس اللبدة أن حل مشكلته لا يمكن أن يكون من خلال أخذ الصورة، وهذا ما دعاه إلى حمل السلاح في مواجهة الأعداء، ليترسخ مفهوم الفداء بوصفه الجسر الذي يمكن من خلاله الوصول إلى الوطن، وفي حين نجح الشهيد بدر على الرغم من عدم وجوده الفيزيائي في تحقيق استمراريته من خلال شخصية فارس، لم تتمكن شخصية «سعيد س» من تحقيق أي اتصال مع تركتها البشرية في حيفا، فخلدون الذي تركه رضيعاً تحوّل إلى»دوف»، ذلك الجندي اليهودي الذي يخدم في جيش الاحتلال.
أمام القطيعة التامة بين سعيد ودوف، تقوم حالة اتصال مصيرية مع شخصية خالد: «وأحس تلك اللحظة بشوق غامض لخالد، وودّ لو يستطيع أن يطير إليه ويحتويه ويقبّله ويبكي على كتفه، مستبدلاً أدوار الأب والابن على صورة فريدة لا يستطيع تفسيرها» (ص76)، فخالد هو الشاب الذي سعى لحمل السلاح في مواجهة العدو في مسعى منه إلى تحقيق حالة الوطن المثال، وكان من الطبيعي أن يحتمي سعيد بالمستقبل المأمول متمثلاً بخالد للهروب من ماضي الهزيمة والخسران.
لو قدم غسان كنفاني قناعاته هذه بصورة مباشرة، لبدت خطبة تقليدية تخلو من الجاذبية، غير أنه بإحساسه الفني العالي استطاع أن يوصل رؤيته المرتبطة بالبدهيات العقدية في التعامل مع الحق الفلسطيني، ومن هنا فقد أدت الرموز الجليّة دوراً مهماً في الرواية، فخلدون/ دوف رمز للمفقود الذي لا يمكن إعادته، وهو رمز للهزيمة بكل ما فيها من مآسٍ وخسارات، وخالد رمز لمستقبل المقاومة، ولعل في عدم ظهور شخصيته في الرواية إلا بالذكر ما يبرز رمزيتها بصورة أكبر.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF