* س : يعتمد الكتاب الاسلاميون المعاصرون في حديثهم عن الطلاق، وموقف الاسلام منه، على الحديث المشهور «ابغض الحلال الى الله الطلاق». ولكني قرأت لبعض العلماء المشتغلين بعلم الحديث، ما يفيد تضعيف الحديث المذكور.
فهل لديكم اسانيد اخرى لتنفير الاسلام من الطلاق، وخصوصا انكم استندتم في بعض كتبكم الى هذا الحديث ايضا؟
- الجواب : عما اثاره الأخ السائل يتضمن عدة نقاط:
1- تصحيح الحديث المذكور ثبوتا ودلالة.
2- بيان ما يعضده من ادلة اخرى من الكتاب والسنة تنفر من الطلاق.
3- بيان ما يؤيده من قواعد الشرع.
اولا : حديث «ابغض الحلال الى الله الطلاق».
رواه ابو داود وابن ماجة والحاكم من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعا.
ورواه ابو داود والبيهقي مرسلا - ليس فيه ابن عمر - ورجح ابو حاتم والدارقطني في العلل والبيهقي المرسل.
واورده ابن الجوزي في «العلل المتناهية» باسناد ابن ماجة، وضعفه بعبيدالله بن الوليد الوصافي وهو ضعيف.
قال الحافظ بن حجر في التلخيص: ولكنه لم ينفرد به، فقد تابعه معروف بن واصل الا ان المنفرد عنه بوصله محمد بن خالد الوهبي.
أقول : ومحمد بن خالد: قال الآجري عن ابي داود لا بأس به، وذكره ابن حيان في الثقات، وقال الدارقطني: ثقة. كذا في تهذيب التهذيب ج 9، ص 143.
واخرجه الحاكم من طريق محمد بن عثمان بن ابي شيبة موصولا بلفظ: «ما احل الله شيئا ابغض اليه من الطلاق». ثم قال:
صحيح الاسناد، ووافقه الذهبي وزاد بأنه على شرط مسلم (المستدرك وتلخيصه ج2، ص 196).
قال ابن التركماني : فهذا يقتضي ترجيح الوصل، لأنه زيادة، وقد جاء من وجوه (ولهذا رمز السيوطي في الجامع الصغير الى الحديث بالصحة، واعترضه المناوي في «الفيض» بما ذكره ابن حجر) (الجوهر النقي مع السنن الكبرى ح 7، ص 222، 223).
ولكن ان نزل الحديث عن درجة الصحة، فلن ينزل عن درجة الحسن. ومن الناس من ضعف هذا الحديث من جهة معناه، فقد قال: كيف يكون حلالا ومبغوضا عند الله؟ فهذا تناقض يدل على ضعف الحديث.
واجاب بعضهم : بأن الحديث يدل على ان الحلال ينقسم الى ما هو محبوب ومبغوض بحسب ما يعرض له فليس كل حلال محبوبا.
وقال الخطابي في معالم السنن: معنى الكراهية فيه ينصرف الى السبب الجالب للطلاق، وهو سوء العشرة، وقلة الموافقة الداعية الى الطلاق، لا الى نفس الطلاق.
وقد يقال : الطلاق حلال لذاته، والابغضية لما يترتب عليه من انجرار الى المعصية.
ثانيا : ان القرآن الكريم رغب في امساك الزوجة المكروهة من زوجها، والصبر عليها، ابقاء على الاسرة وحرصا على استمرارها. قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف، فان كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) (44).
فأما الزوجة المطيعة الموافقة، فلا وجه لايذائها بالفرقة، وايحاشها بالطلاق، مع عدم الحاجة اليه، الا ان يكون ضربا من البغي عليها، ولا سيما اذا كانت ذات اولاد منه. وقد قال تعالى في شأن الناشزات من الزوجات: (فان اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ان الله كان عليا كبيرا) (45).
فاذا كان البغي منهيا عنه ولو على المرأة الناشز ما دامت قد عادت الى حظيرة الطاعة والموافقة، فكيف بالنساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله؟!
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية:
ان الاصل في الطلاق الحظر، وانما ابيح منه قدر الحاجة كما ثبت في الصحيح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ان ابليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم اليه منزلة اعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: أنت أنت! ويلتزمه!».
وقد قال تعالى في ذم السحر: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) (46).
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ان المختلعات هن المنافقات».
وفي السنن ايضا عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «انما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة».
ولهذا لم يبح الا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة، حتى تنكح زوجا غيره.
«واذا كان انما ابيح للحاجة، فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باق على الحظر» (47).
ثالثا : ومن ناحية الاصول والقواعد الشرعية:
1- نجد ان الطلاق، كما قال صاحب «الهداية» من الحنفية: قاطع للنكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية. (48).
2- وانه - كما نقل صاحب «المغنى» من الحنابلة - ضرر بالزوج وبالزوجة، واعدام للمصلحة الحاصلة لهما، من غير حاجة اليه، فكان حراما كاتلاف المال، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (49).
3- انه كما ذكر ابن عابدين من متأخري الحنفية - اذا كان بلا سبب اصلا، لم يكن فيه حاجة الى الخلاص، بل يكون حمقا وسفاهة رأي، ومجرد كفران بالنعمة، واخلاص الايذاء بها (بالمرأة وبأهلها واولادها.. فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعا، يبقى على اصله من الحظر. ولهذا قال تعالى: (فان اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) أي لا تطلبوا الفراق (50).
وبهذا يتضح لنا : ان الحديث صالح للاستدلال به، تعضده الادلة من القرآن والسنة، كما تؤيده اصول الشرع وقواعده. والله اعلم.