د.يوسف بكّار - هذه الحكمة من الحكم الخوالد التي يجب ألاّ تغيب عن بال كلّ ذي منصب ومقام كبُر أم صغُر إن ظلّ ثمّة من «يطلب الحكمة». وما دام الشيء بالشيء يذكر فثمّة كتاب عنوانه «الحكمة الخالدة»(1) (جاويدان خِرد) لمسكويه أبي علي أحمد بن محمد، يغصّ بسيل من الحكمة التي يدلّ عليها عنوانه، وإن ليست هذه الحكمة فيه.
هذه الحكمة منقوشة على قصر «السّيف» في الكويت؛ وقد شجّعني على الالتفات إليها والوقوف عندها ما لفت نظري وأنا أُطالع كتاب «الذّهب المسبوك في وعظ الملوك»(2) لأبي عبد الله محمد بن أبي نصر الحَميدي (ت. 488هـ)؛ وهو أنّ رجلاً كان ينادي على بعض أبواب الملوك: «مَنْ يشتري مني ثلاث كلمات باثني عشر ألف درهم؟»، فكان من يسمعه يعجب منه حتّى بلغ ملكاً منهم خبره، فدعا به وسأله عن الكلمات، فقال: «أحْضرِ المال». فأحضره، فقال: «أمّا الكلمة الأُولى: فينبغي أن تعلم أنّه ليس في صحبة النّاس خير. والثانيّة: ينبغي أن تعلم أنّه لا بدّ منهم. والثالثة: ينبغي أن يُعاملوا على قَدْر ذلك». فقال له: أحسنت، فخذِ المال. قال: «لا حاجة لي فيه؛ إنّما أردت أنْ أعلم: هل بقي أحد يطلب الحكمة؟!» (ص162-163).
الحكمة جنس أدبي مشترك بين الشّعر والنثر، والشّرق كما يقول شوبنهور- هو موطن الأمثال والحكم القصيرة والكلمات العامرات بمعنى «الحكمة في الحياة». والحكمة الخالدة التي نحن في صددها نثريّة أبديّة دالّة تصلح لكلّ مكان وزمان.
لقد استهواني مضمونها السّرمدي، ودار في خلدي، والحكم تجارب وممارسات في الأغلب، أنّها لم تكن وُلدت من فراغ، فجست أبحث في ما يتوافر في مكتبتي الشخصيّة من مصادر بحثاً عن اُصولها ومنابعها عند الأمم كافة لاسيّما العرب، فخرجت بما يأتي:
(1) قال كسرى لشيرين: «ما أحسنَ هذا المُلْك لو دام لنا!»، فقالت له: لو دام ما انتقل إلينا» (3).
(2) يُقال إنّ النعمان بن امرئ القيس الأكبر، الذي بنى قصى الخورنق، ركب فرساً فلمّا أشرف على الخورنق نظر إلى ما حوله، فقال لمن حضره: «هل علمتم أحداً أُوتي مثل ما أوتيت؟»، فقالوا: لا. إلاّ أن رجلاً منهم ساكت لا يتكلّم وكان من حكمائهم، فقالوا له: «مالك لا تتكلم؟»، فقال: «أيّها الملك إنْ أَذنت لي تكلّمت». فأذن له، فقال: «أرأيت ما جمعت؟ أشيء هو لك لم يزل ولا يزول أم هو شيء كان لمن قبلك زال عنه فصار إليك، وكذلك يزول عنك؟»، فقال: «لا، بل كان لمن قبلي فزال عنه وصار إليّ، وكذلك يزول عني» (4).
(3) إنّ ابنةً لزياد بكت حين رأت المقاتلة وكانوا ثمانين ألفاً، فقال لها أبوها: «ما يبكيك؟»، قالت: «أبكي لزوال هذا». قال: «لا تبكي من ذلك، ولكن ابكي من دوامه؛ فلولا زواله عمّن كان قبلنا لم يصل إلينا» (5).
(4) يروى أنّه لمّا قَدِم سليمان بن عبد الملك المدينة للزيارة بعث إلى أبي حازم الأعرج وعنده ابن شهاب، فطلب إليه أن يعظه، فقال -في ما قال-: «إنّ هذا الأمر لم يصل إليك إلاّ بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يدك مثل ما صار إليك»(6).
وأبو حازم الأعرج(7) لعلّه سَلَمة بن دينار التّمار المَدَنيّ القاصد الزّاهد الحكيم، مولى الأسود ابن سفيان المخزومي، عالم المدينة وواعظها. كان أشقر فارسيّاً وأمّه روميّة، وتوفي في حدود عام 140ه.
يُروى أنّه لمّا حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، وقال: «ليتني كنت غسّالاً أَعيش بما أكسب يوماً بيوم»، وبلغ أبا حازم ذلك قال: «الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنّون ما نحن فيه، ولا نتمنّى عند الموت ما هم فيه»(8).
(5) قال عمرو بن عَبيد يعظ أبا جعفر المنصور (9): «يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله أعطاك الدّنيا بأسرها، فاشترِ نفسك منه ببعضها، واعلم أنّ الأمر الذي صار إليك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك».
(6) ويروى أن عبد الرّحمن بن عمرو الأوزاعي وعظ المنصور، كذلك، فقال (10): «يا أمير المؤمنين، إّن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبقَ لغيرك».
ويروى أن هذا، أيضاً، قاله أحد المتكلمين ويدعى «عليان» في وعظ الخليفة المأمون (11).
(7) وورد معنى الحكمة ذاتها ومضمونها في إحدى الرّباعيّات التي تُسند إلى عمر الخيّام، وهي:
برخيز ومخور غم جهان كـَ ذران
خوش باش ودمى به شادمانى كـَ ذران
در طيع جهان اكـَ روفايى بودى
نوبت بتو خودنيا مدى از دكـَ ران
وترجمتها عند أحمد الصّافي النجفي شعراً(12).
قُمْ ودّع همّ عالمٍ سوف يَفْنى
واغتنم لحظة السُّرور لديكا
إن يكنْ في الزّمان أدنى وفاءٍ
لم تصل نوبة الهناء إليكا
وعند أحمد حامد الصّرّاف نثراً (13):
«انهض ولا تحزن على الدّنيا الفانية، وطِبْ نَفْساً واقضِ وقتك مسروراً. لو كان الوفاء من شيمة الدّنيا لما انتقلت إليك من الآخرين».
وعند جميل صدقي الزّهاوي شعراً (14):
هي دنيا ما إنْ لها من ثباتٍ
فتمتّع بالرّاح بين يديكا
إنها لو وفت لما انتقلت قطّ
(م) من الآخرين يوماً إليكا
وعنده نثراً:
«لا تحمل في قلبك همّ الدّنيا الزائلة، وطبْ نَفْساً بساعةٍ لك تقضيها في السُّرور. لو كان في طبيعة الدنيا وفاء لما انتقلت إليك من الآخرين».
وعند عرار (مصطفى وهبي التل) نثراً (15):
«انشط للطّرب ولو ثانيةً واحدة، وحاذر أن تغصّ بحسرات هذه الدار الفانية؛ واعلم أنّ الوفاء ليس بشيمةٍ للدّهر، ولو كان لما ظفرنا بحصتنا من هذه الحياة».
الهوامش
( ) حقّقه وقدّم له د.عبد الرّحمن بدوي. دار الأندلس، بيروت. ط2: 1980.
(2) حقّقه أبو عبد الرّحمن بن عقيل الظاهريّ ود.عبد الحليم عويس، عالم الكتب، الرّياض. ط1: 1982.
(3) أبو حيان التوحيدي. البصائر والذخائر 155:7. تحقيق د.وداد القاضي. دار صادر، بيروت، 1988.
(4) الذهب المسبوك في وعظ الملوك، ص146-147 و184.
(5) أبو حيّان التوحيد: البصائر والذّخائر، 55:7 (حاشية 486).
(6) الذّهب المسبوك، ص172-173.
(7) الحكمة الخالدة، حاشية (1)، ص172.
(8) الحكمة الخالدة، ص174.
(9) تاريخ بغداد 165:12-166. تحقيق مصطفى عبد القادر القطّ. دار الكتب العلميّة، بيروت. ط1: 1997.
(10) الذهب المسبوك، ص204.
(11) المصدر نفسه، ص231.
(12) رباعيّات عمر الخيّام: الرباعيّة 231، ص195. طبعة أحمد الجندي، دار طلاس، دمشق، 1984.
(13) عمر الخيّام: الحكيم الرياضي الفلكي النيسابوري. الرباعيّة 121، ص270. مطبعة المعارف، بغداد. ط2: 1961.
(14) رباعيّات الخيّام، الرباعيّة 82، ص46. مطبعة الفرات، بغداد، 1928.
(5 ) رباعيّات عمر الخيّام. الرباعيّة 120، ص185. تحقيق يوسف بكّار. مكتبة الرائد العلميّة، عمّان، ط2: 1999.
*يمنع الاقتباس او اعادة النشر الا بأذن خطي مسبق من المؤسسة الصحفية الاردنية - الرأي.