د. عاهد مسلم المشاقبة - رغم الايجابيات الكثيرة للتقدم التكنولوجي الا ان هذا التقدم يرافقه نوع من الاثر السلبي الذي يتمثل في توجيه وسائل الاعلام بهدف المساس بثقافات الشعوب..
وبسبب حاجة الاشخاص المتزايدة لمواكبة الحداثة والوقوف على المستجدات نرى ان الاعلام يوجه لخدمة الاغراض والاهداف الغربية مقابل النيل من الدول المعدمة والفقيرة، وللأسف فان التنافس بين الشركات المتعددة الجنسيات قد بلغ اوجه في خدمة مصالح البلاد التي تنتمي اليها هذه الشركات، فنرى بالمقابل غياب دور دول الجنوب ومنها (الدول العربية) التي لا تستطيع الوقوف ضد هذه الشركات بسبب تدني المستوى السياسي، والاقتصادي والاجتماعي في هذه الدول فتنشط هذه الشركات بادائها لان الحلبة امامها فارغة بفضل امتلاكها لرؤوس اموال لا حصر لها، لذلك تتفق على الاخبار والمعلومات بهدف المنافسة والربح مستفيدة بذلك من تدني المستوى المادي لدول الجنوب فتسيطر على المعلومات.
وبما ان لكل عصر سماته وخصائصه التي تميزه عن غيره، وتطبعه بطابعه الخاص وبما ان العنصر البشري هو الاهم بصفته العنصر الفاعل في تحريك الاحداث فان مجموعة الاعمال التراكمية التي قدمها متمثلة بابداعاته، اوصلتنا اليوم الى ما يسميه بعضهم «القرية الكونية» التي الغت كل الحواجز الجغرافية والسياسية واصبحنا نتمتع بتكنولوجيا عالية للاتصال، فاصبحت الثورة التكنولوجية بتأثيرها على وسائل الاعلام والثقافة خير وسيلة تمكننا من تلقي المعلومات وتبادلها باقل تكلفة واقل جهد، ولكن صناعة المعلومات وتكوين قواعد بيانات واسعة ما تزال حكرا في الغالب على الدول الصناعية المتقدمة التي تتحكم في نوعية المعلومات وتركز على مجالات وقضايا معينة.
ومن هنا تزداد الفجوة اتساعا بين الشمال والجنوب، ويدعم ذلك وسائل الاعلام المختلفة التي تكشف لنا كل يوم عن الجديد والغريب، فالفرد في الدول المتقدمة يجني ثمار مجهوده العقلي من الرفاه اللامحدود، التقدم الاقتصادي، الرخاء المادي والتقدم العلمي.. الخ، وكل هذا يدفعه الى الامام ليبدع وينتج ويتقدم، لذا نرى ان دول الجنوب هي الهدف لتدفق الاخبار والمعلومات من دول الشمال وهي المتلقي الرئيس لهذه المعلومات، ونظرا لتخلفها او عدم وجود وكالات انباء خاصة بها فانها تعتمد اعتمادا كبيرا على مصادر المعلومات من الشمال، الامر الذي يجعلها عرضة لسيطرة دول الشمال ووكالات الانباء على آراء وافكار واتجاهات مواطنيها بشكل كبير في وقت اصبح الكون فيه قرية صغيرة وتعددت تكنولوجيا البث المباشر وعبر مسافات هائلة واصبحت الثقافات المحلية في دول الجنوب عرضة للتفكك والتشرذم بل والاندماج مع ثقافة الغرب المسيطر اعلاميا وسينمائيا وسياسيا والذي لا يدخر جهدا في تدعيم وتوطيد هذه السيطرة خاصة من خلال وسائل الاتصال الجماهيري.
وسائل الاعلام واثرها على ثقافة الشعوب
يمكن القول ان المواد الاعلامية عموما صار تقديمها يتميز بالتركيز على الصورة والرموز والشعارات المختصرة ولكن ذات الدلالة، وهذا يسهم في اقبال المواطنين على التلقي بشكل لم يسبق له مثيل، ومع تعدد وسائل الاعلام المختلفة تعددت انماط واشكال المواد الاعلامية التي تقدم فاصبحنا نرى على ارض الواقع ان كثيرا من البرامج التي تبث بتأثير التكنولوجيا اصبحت تترك اثرا واضحا ملموسا في ثقافات الشعوب، فكثير من الهويات الثقافية اصبح فيها تداخل واضح له اهداف مرسومة، وكثير من الثقافات اصبح ينتابها نوع من التلاشي بسبب انغماس اهلها في متاهات وسائل الاعلام وبرامجها التي اصبح تأثيرها شاملا للجوانب المادية والمعنوية.
فتكاثرت البرامج العلمية والثقافية، والرياضية، وبرزت الى الساحة صناعة جديدة تسمى «صناعة الاعلام» التي تخضع بشكل مباشر لتأثير التكنولوجيا والكمبيوتر خاصة نظرا لتأثيرها الفعال في العملية التعبيرية والابداعية، ورغم كل ذلك فان الانسان يلمس الكثير من الجوانب الايجابية اذا استطاع التعامل مع المادة الاعلامية بوعي وادراك تامين، فاصبحنا نسمع بـ «صناعة الثقافة» التلفزيونية، اذ التلفزيون من اكثر وسائل الاعلام انتشارا في دول الجنوب خاصة بعد تزايد فاعلية الاقمار الصناعية وانخفاض اسعار الهوائيات.
وبتأثير الصراعات الدولية المتزايدة التي لم ولن تقف عند حد معين صار المرء بحاجة الى الاطلاع المستمر والوقوف على الاحداث فازداد ترقبه ورغبته في تلقي المعارف والاخبار وتتبع الاحداث بشكل مضاعف فأصبح بامكانه الحصول على كل ما سبق من خلال الصوت والصورة والحركة. مما يستدعي اعادة النظر في دور الوسائل الاعلامية الكبرى وما تنشره من قيم اخلاقية جديدة، وكل هذا ادى الى ظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي قدر للدول الغربية من خلاله ان تسيطر سيطرة تامة بفضل هيمنتها على وسائل الاعلام المختلفة، بل ايضا هيمنتها على مصادر المعلومات وطريقة عرضها بما يناسب ويخدم سياستها الخارجية وقدرتها على البقاء، وهذا بدوره ادى الى ظهور الفوارق بين الدول بسهولة تامة كظهورها بين الافراد، فتحولت معظم دول الجنوب الى مجرد مستهلك لما تصدره لها الدول الصناعية المتقدمة من مواد علمية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وهذا عزز المكانة المتقدمة للدول المتقدمة، وخاصة في ظل التنبؤات التي تشير الى ان القرن (21) سيكون الطريق السريع للمعلومات، واصبح امن الجنوب مهددا ليس من الناحية السياسية بشكل مباشر فحسب بل من الناحية الثقافية والاجتماعية، لا سيما ان قنوات البث اصبحت خاضعة لنظام التجارة.
وفي ظل هذا النظام فان المجال مفتوح امام هؤلاء التجار للتنافس الحاد والذي يحاول من خلاله كل منتج ان يحظى بنصيب الاسد، فاصبح التنافس بهدف استقطاب اكبر عدد من المشاهدين حتى لو كان ذلك على حساب النوع. لكن هناك من يرى ان ثمة جانبا ايجابيا يبعث على التفاؤل وهو ان الاستخدام الاعلامي المنزلي سوف يدعم ويقوي المشاركة الشعبية فيما يتعلق بصنع القرار السياسي وتوضح المقترحات المقدمة من خلال دراسة اجريت بصدد ذلك، ان الامكانات التكنولوجية لتطوير حركة اتصال ثنائية الاتجاه بين المرسل والمستقبل، قائمة على طاقة اكثر سعة مما توفره قنوات الاتصال الاخرى اذ يوجد في الوقت الحاضر اكثر من (40) قناة كيبل وسيتزايد هذا العدد بالتأكيد مع ادخال العديد من التحسينات على التكنولوجيا.
وبالمقابل نرى على الجانب الآخر من هو متشائم بسبب ان التكنولوجيا الحديثة بدلا من ان تخفف حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حصل العكس وهو اتساع هذه الحدة بسبب ان دول الجنوب فقيرة جدا بكل المجالات اذا ما قورنت بدول الشمال الغنية بكل شيء حتى بالمعلومات المدعمة بوسائل نقل حديثة لها. ومن هنا فان انتشار الكثير من الامراض الاجتماعية سوف يزداد، اضف الى ذلك ان دور الرقابة المؤسساتية على ما يتلقى الفرد من المعلومات (نوعا وكما) سيقل مما يؤدي الى وقوع المجتمعات في خضم متلاطم من المعلومات فيأخذون من الشمال بلا تمييز بين ما هو نافع وما هو ضار، وبين ما هو ملائم للقيم السائدة وما هو معارض، وبالتالي فان السخط على الاوضاع السائدة في ظل القهر الاجتماعي السائد يدفع بالفئات الكثيرة الى التقليد الاعمى، لا بل الى الممارسة الخاطئة للكثير من العادات والتقاليد وقراءة موضوعات منافية لاخلاقنا وآدابنا ومشاهدة صور تشوه الكثير من الحقائق السائدة فتحقق سبل السيطرة والهيمنة الاميركية بكل سهولة ويسر وللأسف نكون نحن قد ساعدنا على ذلك وعمقنا جذور تلك الهيمنة.
وتحوز الصلات والروابط الثقافية على اهمية كبيرة في وسائل الاعلام والاتصال الجماهيرية، ويقصد بالروابط الثقافية مجموعة العلاقات والصلات الفعالة بين الدول، وتقاس باللغة والهجرة المشتركة، ودرجة التزاوج والسفر المشترك بين الدول، والروابط التاريخية والسياسية، اي الارث التاريخي بين الدول في الشمال وبين مستعمراتها في الجنوب، والتي تركز عليها وسائل الاتصال في الشمال على انها ما تزال تمثل الامتداد الطبيعي لها، وتحاول ان تدعمها بشتى الطرق، وتعتبر مكانة الدول في سلم القوة والصلات الثقافية مجرد متغيرات تابعة ولكن تأثيرها قوي في تدفق المعلومات التي تعتبر المتغير المستقل والذي يؤثر على تشكيل واستيعاب هذه الثقافة، والدول التي بينها علاقات ثقافية تتبادل كما اكبر من المعلومات اكثر من تلك الدول التي تفتقر الى هذه العلاقات، لذلك تعطي اهمية اكبر لها من حيث التدفق الاعلامي، فمثلا اهتمام الصحافة البريطانية بدول الكومنولث اكثر من غيرها من الدول الاخرى كما يفترض ان تهتم الصحافة العربية بشؤون المواطنين في العالم العربي اكثر من غيرها من المناطق الاخرى.
ويترك التدفق الاعلامي اثاراً سلبية على لغة الشعوب وثقافتها ولا سيما ان هذا التدفق يدعمه التقدم التكنولوجي الذي يأتينا كل يوم بجديد لا سيما ان الولايات المتحدة استطاعت ان تغطي مناطق جغرافية اما متحدة متوافقة معها من خلال العادات والتقاليد، والثقافة واللغة، واما مغايرة لها في العادات والتقاليد واللغة مما يهدد هوية هذه الشعوب، ونرى ان بعض الدول تنبهت لخطورة هذا التدفق الاعلامي في ظل التقدم التكنولوجي الهادىء وتصدت له لانها تملك القدرة على المواجهة مهما كانت. لكن دول الجنوب لا تستطيع التصدي نظراً لتدني المستوى الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي.. الخ. فنرى ان التدفق الاعلامي في هذه الدول قد بلغ اوجه واصبحت من اخطر الظواهر التي تهدد الامن الثقافي والايديولوجي والوحدة والهوية القومية داخل الاقليم الوطني للدولة. وتصبح هذه الدول خاضعة لرحمة الشركات متعددة الجنسيات خاصة ان هذه الشركات تمتلك رؤوس اموال لا حصر لها وهذا يمكنها من الانفاق على الاخبار والمعلومات بهدف المنافسة والربح مستفيدة بالمقابل من الضائقة المالية والمادية التي تعاني منها دول الجنوب.
ومن الخبراء من يرى ان مستقبل الثقافة والخصوصية القومية لدى الجنوب اصبح مهددا بالتلاشي بسبب استحواذ هذه السيطرة على كل ما يمس عقول الناس ووجدانهم. والسبب الذي يشكل خطرا كبيرا على الهوية وطمس ملامحها ان دول الشمال تمتلك صرحا هائلا للمعلومات قادرا على اعادة انتاج المعلومات وصناعتها من خلال الاشكال المتعددة لوسائل الاتصال الجماهيري، فتصبح هذه الشركات قادرة على اعادة صناعة الاخبار والمعلومات وتحليلها ثم البث الفوري لها. ومن خلال تحقيق هدفها الاسمى وهو جذب انتباه المتلقي، فانها تسعى الى انتاج البرامج والاخبار بصورة تنافسية. ولقد هيأ لها هذا التفوق تجميع المعلومات واعادة انتاجها وفقا لنظام مدروس لا بل منهج علمي متفق عليه يهدف الى اجراء دراسة المجتمعات النامية منها والمتقدمة، فتقوم دول الشمال من خلال هذه الدراسة بجمع معلومات وفيرة تمكنها من الوقوف بدقة على ماهية تلك الشعوب وكيف تعيش. وما هي ابعاد الحياة السياسية لديهم حتى تقدم لهم المعلومة بالمنطق وبما يتلاءم مع هويتهم. فتقوم باستخدام وسائل مبهرة لاقتحام كيان هذه الشعوب فتقتحم المجتمعات لتقنعها بالنموذج الغربي الامثل لحياة افضل، اذن فقنوات الاتصال تنطلق من اهداف سياسية اقتصادية، اجتماعية تعمل على اقناع الشعوب باتباعها وتروج لها مدللة على مدى نجاح هذا النموج وفاعليته من خلال تفوق دول الشمال في سائر المجالات. ومن ابرز العلامات الدالة على الغزو الثقافي اننا مجبرون على استخدام الفاظ ومصطلحات يلفظها الاجنبي لاننا لم نجد بديلا دقيقا لها وهذه احدى مرتكزات الغزو الثقافي. لذا فعلينا في دول الجنوب ان ندرك العواقب النفسية والشخصية والفكرية العقلية. ولا سيما ان حياة الشخص وعالمه النفسي يتحولان تدريجيا الى مجال لاختيار علوم التحكم الآلي.
وليس المطلوب هو الجفاء ما بين الانسان والتقدم التكنولوجي بل العكس تماما هو اللحاق بركب المدنية بتبصر وروية لان عالمنا المعاصر والمقبل يميل الى المزيد من التقريب بين الخيال والواقع، حيث اننا كعرب لا نملك تكنولوجيا او مخترعات حالية يمكن ان نشارك بها في ملكية الحضارة الانسانية المعاصرة وتطويرها، ولان الثقافة وحدها في الرصيد الذي يمكن ان نشارك به في هذه الحضارة، حيث قدمت الثقافة العربية وثقافة دول الجنوب الكثير في ميادين الابداع الفكري والفني والادبي والتي تساهم في نهضة الأمة في الموسيقى والشعر والفنون، لكن المشكلة تتمثل في تأخر البديل الاعلامي العربي في الدفاع عن الثقافة العربية، بل وتأخر دول الجنوب في خلق بيئة اعلامية تستطيع مواجهة الاعلام الغربي الذي يخترق ثقافة الجنوب.