د.يوسف بكّار
(1)
السّحبُ تَرْكضُ في الفضاءِ الرَّحْبِ رَكْضَ الخائفينْ
والشّمسُ تبدو خَلْفَها صفراءَ عاصِبَةَ الجبينْ
والبحرُ ساجٍ صامتٌ فيه خشوعُ الزّاهدينْ
لكنَّما عيناكِ باهِتَتانِ في الأُفْقِ البعيدْ
سلمى... بماذا تَفْكُرينْ؟
سلمى... بماذا تَحْلُمين؟
أرأيتِ أحلامَ الطفولَةِ تختفي خلفَ التُّخومْ؟
أمْ أبصرتْ عيناكِ أشباحَ الكهولَةِ في الغيومْ؟
أمْ خفت أن يأتي الدُّجى الجاني ولا تأتي النّجومْ؟
أنا لا أرى ما تَلْمحينَ مِنَ المشاهدِ إنّما
أظلالها في ناظريكِ
تَنِمُّ، يا سلمى، عليكِ
إني أراكِ كسائحٍ في القَفْرِ ضلَّ عن الطريقْ
يرجو صديقاً في الفلاةِ، وأينَ في القَفْرِ الصديقْ؟
يهوى البروقَ وضَؤْءَهَا، ويخافُ تخدعُهُ البروقْ
بلْ أنتِ أعظمُ حَيرةً من فارسٍ تحتَ القتامْ
لا يستطيعُ الانتصارْ
ولا يَطيقُ الانكسارْ
***
هذه هي المقاطع الثلاثة الأولى من قصيدة «المساء» ذات المقاطع العشرة للشاعر المهاجري الشّمالي إيليا أبو ماضي (1889-1957) من ديوانه «الجداول» (1).
الشّاهد المعنيّ فيها اسم «سلمى». فثمّة من ظنّ من هذا التكرار النّغمي التّوكيدي لسلمى ومن عنوان القصيدة «المساء» ذي السيّما الدلاليّة الرومانسيّة ومضمونها الذي تنداح فيه رومانسيّة الشّرق مطعّمة برومانسيّة غربيّة جرّاء ثقافة الشاعر المزدوجة، ظنّ أنّها قصيدة «غزل»، وأن «سلمى» هي محبوبة الشّاعر و»فتاته».
فإيليّا الحاوي، مثلاً، حلّل القصيدة ولم يذكر «سلمى» بغير «الفتاة»، كقوله «وصف الفتاة وهمومها» و»الفتاة التي يصفها الشّاعر هي فتاة رومانسيّة» (2). وكذا ذهب محمد محمود، الذي قال: «إنسان هذه القصيدة (فتاة) في ريعان الصِّبا»، و»فتاته» (3)؛ وعبد الكريم الأشتر إذ قال: «وهي قصيدة المساء يخاطب الإنسان عَبْر فتاة اسمها (سلمى)» (4). أمّا سالم المعوش فلم يذكرها بغير «سلمى» فقط (5).
(2)
الحقيقة غير هذا، فقصيدة «المساء» من القصائد الأثيرة جدّاً عند أبي ماضي، فقد كان يختارها أوّلاً إذا ما طُلب إليه أن يختار من شعره، واختارها لتكون ضمن «مجموعة الرّابطة القلميّة لسنة 1921».
كتبت الصحفيّة المصريّة خيريّة خيري في مجلة «الجيل» القاهريّة أواخر العام 1955، بعد أن زارت أبا ماضي قبل وفاته بسنتين وكان شيخاً عمره ستة وستون عاماً، وبعد أربع وثلاثين 34 سنة على نظم «المساء»، كتبت:
«سمعته وأنا جالسة أمامه وجهاً لوجه يقول لي:
السّحب تركض...... (المقطع الأول).
ولم يقل لي صاحبُ هذه الأبيات، الشّاعرُ العربي المعروف إيليا أبو ماضي مَنْ هي سلمى. كنّا جالسيْن حول مائدة في مطعم (النّجم الشّرقي) في حيّ بروكلين بنيويورك، وسألته عن أحبّ قصائد الغزل التي كتبها، فأخذ منّي القلم والورقة التي أمامي، ورفع نظارته عن عينيه واسترسل في كتابة القصيدة كلّها، ثم ألقاها باسماً وكأنّ ذكرى هذه الأبيات حرّكت في نفسه عاطفة قديمة. فسألته: ما هي أكبر قصة حبٍّ في حياتك؟ فأجابني ضاحكاً: شو ها الفضيحة هايدي!».
«سلمى» القصيدة هي سلمى ابنة جرجس إسكندر والدة إيليا نفسه من «محيدثة» لبنان، وكنيتها «أُمّ مراد» لأن إيليا كان الثاني: ذكَرها في القصيدة باسمها المجرد، ولا غضاضة في هذا في الشعر قديماً وحديثاً؛ أوَليست الأم هي المعشوقة والمحبوبة الأولى؟ لقد أُثر عن أبي ماضي قوله «الدّنيا أمّ» و»الدّنيا أُخت أيضاً» إشارة إلى أخته الصّغيرة «جنى» النّجمة الصّغرى في سماء العائلة كما نعتها.
سلمى تزوّجت ظاهر (ضاهر) بن إيليا بن طانيوس أبي ماضي، وخلّفت منه مراداً وإيليا ومتري (ديمتري) وطانيوس وإبراهيم وجنى، لكنّها فُجعت بالأبناء الثلاثة الأخيرين وشقيقتهم وهم في ريعان الشّباب.
رحلت هي وزوجها العام 1923 إلى أميركا، واستقرّت في نيويورك. وبعد سبع سنوات حنّ الزوج إلى مسقط رأسه وعاد إلى «المحيدثة» ليلقى وجه ربّه بعد أشهر تاركاً سلمى في رعاية إيليّا الذي عاشت معه ومع أسرته، وبمرأى ابنها الأكبر مراد وزوجه، بين الحين والحين، حوالي عشرين عاماً إلى أن توفيّت في آذار 1943، ودُفنت في مقبرة «جبل الزيتون» (6).
(3)
ولكي لا يتكرر أمر من قيلت فيها قصيدة «المساء»، ثمّة مقطوعة لأبي ماضي في أُمه، هي «ابسمي» (7).
ابسمي كالورد في فجر الصِّباءْ
وابْسمي كالنّجم إنْ جُنّ المساءْ
وإذا ما كفنّ الثّلج الثرى
وإذا ما ستر الغيْم السّماءْ
وتعرّى الرّوْض من إزهاره
وتوارى النُّورُ في كهف الشّتاء
فاحلمي بالصّيْف ثمّ ابتسمي
تَخْلقي حولكِ زهْراً وشذاء
وإذا سرّ نفوساً أنّها
تُحْسِنْ الأخذ فُسري بالعطاء
وإذا أعياكِ أن تُعطي الغنى
فافرحي أنّك تُعْطينَ الرّجاءْ.
وهي تتجاوب كثيراً مع المقاطع الثلاثة الأخيرة الآتية من «المساء»:
فاصغَيْ إلى صوتِ الجداولِ جارياتٍ في السُّفوحْ
واستنشقي الأَزهارَ في الجنَّاتِ ما دامتْ تفوحْ
وتمتَّعي بالشُّهْبِ في الأفلاكِ ما دامتْ تلوحْ
من قَبْل أنْ يأتيَ زمانٌ كالضّبابِ أو الدّخانْ
لا تبصرينَ به الغديرْ
ولا يَلَذُّ لكِ الخريرْ
لتكنْ حياتُكِ كلُّها أملاً جميلاً طيِّبا
ولتملأ الأَحلامُ نفسَكِ في الكهولةِ والصِّبى
مثلُ الكواكبِ في السّماءِ وكالأزهارِ في الرُّبى
ليكنْ بأمرِ الحبِّ قلبُكِ عالَماً في ذاتهِ
أزهارُهُ لا تذبلُ
ونجومُهُ لا تأفلُ
ماتَ النهارُ ابنُ الصّباحِ فلا تقولي كيفَ ماتْ
إنّ التأملَ في الحياةِ يَزيدُ أوجاعَ الحياة
فدعي الكآبةَ والأسى واسترجعي مَرَحَ الفتاةْ
قد كانّ وجهُكِ في الضحى مثلَ الضُّحى متهلّلا
فيه البشاشةُ والبهاءْ
ليكنْ كذلكَ في المساءْ.
***
وتكاد كلّها تكون صدًى لفلسفة أبي ماضي في قصيدة «الغبطة فكرة» (8)، مثلاً، التي منها:
أيّها الشّاكي الليالي إنّما الغبطة فكرهْ
ربّما استوطنتِ الكوخ وما في الكوخِ كسْرهْ
وخلتْ منها القصور العاليات المشمخرّة
أيّها الباكي رويداً لا يسدُّ الدّمع ثغره
أيّها العابس لن تُعطى على التقطيب أُجْره.
(4)
وثمّة قصديتان لأبي ماضي ذكر فيهما أُمّه يقال إنّه ترجمهما عن الإنجليزيّة بتصرف (9). الأولى «هي»(10)، ومطلعها:
أروي لكم عن شاعرٍ ساحرٍ
حكايةً يُحْمدُ راويها
والأُخرى «وثبة خيال» أو «كيف ودّع البطل المُجنّح أُمّه»، ومطلعها:
حان المسير عن الحمى
أُمّاه مالكِ واجمِةْ؟
الهوامش
(1) ديوان إيليا أبو ماضي، ص784-788. دار العودة، بيروت (د.ت).
(2) «إيليا أبو ماضي: شاعر التّساؤل والتفاؤل»، ص114 و116. دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1972.
(3) «إيليا أبو ماضي: شاعر الغربة والحنين»، ص126-127. دار الفكر اللبناني، بيروت، 2003.
(4) «إيليا أبو ماضي: الأعمال الشعريّة الكاملة» (جمع وتقديم)، ص49. مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين، الكويت، 2008.
(5) «إيليا أبو ماضي بين الشّرق والغرب»، ص316-317. مؤسسة بحسون، بيروت، 1997.
(6) راجع: جورج ديمتري سليم، «إيليّا أبو ماضي: دراسات عنه وأشعاره المجهولة»، ص32-58. دار المعارف، القاهرة (د.ت).
(7) الديوان، ص126.
(8) الديوان، ص471.
(9) جورج ديمتري: «إيليا أبو ماضي...»، مصدر سابق، ص36.
(10) الديوان، ص831.