الأنباط قبيلة عربية كبيرة، جاءت من الجزيرة العربية، ووصلت جنوب الاردن حوالي القرن السادس قبل الميلاد، ويعزى تركهم لموطنهم الاصلي الى ما خلفته الفيضانات من دمار للسدود وخزانات المياه التي كانت تستخدم في الزراعة، الامر الذي قضى على سبل معيشتهم، وبالتالي تركوا تلك الديار، واتجهوا شمالا سالكين طريق البخور العربي القديم الذي كان يبدأ باليمن مارا بالجزيرة العربية ثم البتراء وبعدها الى غزة على الساحل الفلسطيني.
استقر المقام بالانباط في البتراء، لوفرة مياهها وخصب اراضيها وجمال جبالها، بالاضافة الى وقوعها على طريق القوافل المهمة، فاشتغلوا بالتجارة واصبحوا اثرياء حيث بنوا مدينة البتراء ثم كونوا مملكة كبيرة وجعلوا البتراء عاصمة لهم.
توسع الانباط شمالا للسيطرة على طرق القوافل فأصبحت دمشق ايضا مدينة من مدنهم، ولقد استفاد الانباط من انقسام الامبراطورية اليونانية في الشرق بعد موت الاسكندر الكبير، حيث انقسمت امبراطوريتهم بين البطالة والسلوقيين ودافع الانباط عن مملكتهم خير دفاع ضد حملات اليونان الذين فشلوا بالاستيلاء على دولة الانباط وعاصمتهم البتراء.
وعندما جاء الرومان بدل اليونان الى الشمال كان الرومان في البداية مشغولين بحروبهم مع الفرس ثم اصبح لهم بعدها علاقات وطيدة مع الانباط، وسرعان ما اصبحوا اعداء، واستطاع الرومان في النهاية السيطرة على دولة الانباط عام 106 ميلادي وكان ذلك آخر عهد لدولة الانباط العربية.
لقد اتسعت مملكة الانباط غربا الى النقب وسواحل فلسطين الجنوبية، وجنوبا حتى تيماء ومدائن صالح وكذلك الحوراء على ساحل البحر الأحمر.
واصبحت بصرى الشام عاصمة لدولة الانباط عوضا عن البتراء في عهد آخر ملوكهم رب إيل «رئبال» الثاني.
اما العصر الذهبي للانباط فكان في أواخر القرن الاول قبل الميلاد واوائل القرن الاول الميلادي واشتهر من ملوكهم الحارث الثالث الذي ضم دمشق لمملكته والحارث الرابع «المحب لشعبه» وكلاهما حكم في العصر الذهبي لدولة الانباط.
وقد ظهر اول ذكر للانباط في التاريخ في قائمة اعداء الملك الآشوري «أشور بني بعل» عام 646 ميلادي ومن الاسماء القديمة للانباط نبايوت ونبياتيين وغيرها، اما بالنسبة للغة فقد تكلم الانباط اللغة العربية النبطية وكتبوا بها، واثرت فيهم الثقافة الآرامية وكتبوا بها ايضا حيث كانت لغة العالم القديم السائدة تلك الايام.
وقد أحاطت اللثام عن الحضارة النبطية وتاريخها العريق، الكثير من المواقع الأثرية في البتراء ووادي رم والحميمة وام الجمال وغيرها في الاردن، وكذلك عبدة في صحراء النقب ومدائن صالح وغيرها في الجزيرة العربية وكان من مظاهر حياة الانباط، الاهتمام بتربية الجمال والخيول وبناء السفن والاهتمام بالموانئ كموانئ العقبة «أيلة آنذاك» والحوراء على ساحل البحر الأحمر، وكذلك بناء المخازن والمستودعات التجارية وانشاء محطات القوافل كمحطة سيق البارد قرب البتراء والذي يسمى «البتراء الصغيرة» ايضا ومحطة الحميمة في الجنوب.
اما بالنسبة للفن النبطي، فلقد كان للانباط اسلوبهم المعماري الخاص بهم والذي يظهر جليا في القصور والقبور والمعابد وتيجان الاعمدة والواجهات المحفورة في الصخور، وكذلك تأثر الانباط بالحضارات السائدة في العالم في ذلك الوقت، حيث نرى الطابع الهلينستي والروماني والفارسي في عمارتهم.
ولقد حفر الانباط واجهات بناياتهم بطريقة فريدة متقنة حيث بدأوا نحت الجبال من الأعلى الى الاسفل ثم الى الاجزاء الداخلية، مستخدمين الادوات المعدنية البسيطة، ومن المرجح بأن القبور والقاعات وقصور الملوك والنبلاء كانت تحفر في الجبال، وأما المعابد وبيوت العامة فكانت تبنى من الحجارة الكبيرة، ومثال ذلك معبد «قصر البنت» في صحن البتراء كما صنع الانباط التماثيل الآدمية والحيوانية، ورسموا الصور الجدارية المزدانة بالزخرفة والألوان الجميلة والتي تنم عن فن من طراز عال ومثال ذلك رسومات سيق البارد قرب البتراء.
اما ديانة الانباط فكانت الوثنية، حيث عبدوا اللآت والعزى ومناة وذو الشرى وغيرها، وهذه هي نفس الآلهة التي عبدها العرب في الجاهلية قبل بزوغ فجر الاسلام، وكان ايضا لاتصال الانباط بالحضارات الأخرى أثر كبير حيث عدلوا على أشكال ووظائف واسماء تلك الآلهة في العصور اللاحقة، وقام الانباط بتشييد قاعات الجنائز، وإقامة مراسم الدفن، وبنيت المذابح للقرابين، هذا بالاضافة للمعابد.
كان ملوك الانباط ينحدرون من اسرة واحدة، مما يدل على الوحدة والتماسك، وقد ألصقوا ببعض ملوكهم صفة الألوهية، وكان هنالك وزراء وحكام مناطق، وكان للمرأة مكانتها في ظل الدولة النبطية، حيث ظهرت صورة الملكة مع الملك على أوجه العملات المتداولة.
ولقد بينت اكتشافات ورق البردى في البتراء وجود صكوك العقود والوثائق والمعاملات التجارية وبيع الاراضي وكذلك النظام الاداري لدولة الانباط من حيث الوظائف و الحكام الاداريين وغيرها.
وكتب المؤرخ الكلاسيكي «سترابو» بأن عبيد الانباط كانوا قلة من حيث العدد، وهذا هو دلالة واضحة على التواضع والاعتماد على الذات في جميع نواحي الحياة النبطية.
قام الانباط بصناعة الفخار والخزف وابدعوا في زخارفها واشكالها واستخدموها في السوق المحلي ولغايات التصدير للاسواق الخارجية ايضا، حيث وجد الفخار النبطي في أكثر من مكان في العالم، وصك الانباط العملة المعدنية من البرونز والفضة، كما صنعوا ادوات قطع وحفر الصخور، واستخرجوا القار من البحر الميت حيث استخدم لطلي المواد وتلوين الادوات ودباغة الجلود بالاضافة الى استخدامها كعنصر هام في مواد التجميل، كما وصنع الانباط التماثيل والحلي والادوات المنزلية، وقناديل الاضاءة من الفخار والتي فاقت رقتها منتوجات اليونان والرومان وغيرهم.
كان للانباط نظام مياه هندسي متطور، حيث قاموا بحفر القنوات الطويلة والبرك المائية الكبيرة في الصخور، وبنوا الخزانات، واقاموا السدود والأنفاق لتخزين وتحويل مياه الأنهار كذلك تفاديا لمياه الفيضانات، وهذه كلها تبدو جلية في البتراء والبيضا والحميمة جنوب الاردن.
لقد ادى تفوق الانباط في التجارة والصناعة والزراعة وغيرها الى بروز دولة قوية متنامية الاطراف استمرت حضارتها زهاء 600 سنة وقد ذكر التاريخ اسماء اثني عشر ملكا من ملوك الانباط اولهم الحارث الاول واخرهم رب إيل «رئبال» الثاني.
840 ك