يومان, ويذهب وزير الخارجية المصري «الألمع» منذ ثلاثة عقود الى «متحف» يسمى جامعة الدول العربية, كي يمارس من هناك دوراً محكوماً بالفشل سلفاً, لأن الذين اسّسوا هذا النادي أو باتوا اعضاء فيه, ارادوا له أن يكون «مقبرة» لأي عمل عربي مشترك, وجاءت المحافظة عليه حتى الان, بهدف العودة إليه كلما اقتضت الحاجة أو عندما تشعر الانظمة أنها باتت تحت ضغوط شعبية تنادي باستعادة كرامة هذه الأمة المستباحة, فإنها تذهب الى قمة طارئة أو عادية (لا فرق) كي تُنفّس الاحتقانات وتمتص النقمات وتعيد «علك» الكلمات والبيانات..
مناسبة الحديث عن نبيل العربي, هذا الخبير القانوني الدولي البارز والآدمي والمدجج بالمنطق الوطني والقومي واحترام الذات, انه سيترك الموقع الذي جاء اليه بطلب وإلحاح من شباب ثورة 25 يناير الذين هالهم استمرار, احمد ابو الغيط سيئ الذكر والدور والممارسات بعد اطاحة الديكتاتور, وفي اطار حكومة الفريق أحمد شفيق التي لم تكن سوى محاولة للالتفاف على الثورة, وانتظار الفرصة لاعادة انتاج «نظام مبارك» باسماء وشخصيات ومقاربات جديدة, لكنها تصب في «النهر ذاته» الذي غرف منه «رجالات» اسوأ نظام بوليسي قمعي فاسد عرفته مصر على مر العصور..
نقول مناسبة الحديث عن هذا الرجل الذي قلب مشهد الدبلوماسية المصرية رأساً على عقب في أقل من شهرين, مستعيداً بذلك وفي زخم يصل حدود المفاجأة, الدور الريادي الذي يليق بمصر وشعبها ومكانتها ما شكّل فرصة للكثيرين, لاكتشاف حقيقة الدور المشبوه والتواطؤ الذي مارسه نظام حسني مبارك على اكثر من صعيد وتجاه اكثر من ملف، واصل خلاله العرب التراجع والانكفاء لصالح مشروع صهينة المنطقة بعد ان «تأمركت» الانظمة وكادت اسرائيل ان تصبح عضوا في الجامعة العربية.
نبيل العربي ذهب الى هيكل ايل للسقوط اسمه الجامعة العربية، فهل ذهب بخياره ام استدرج الى ذلك؟ أم أن ترتيبات معينة افضت الى ان يكون «حلاً» لمشكلة «مفتعلة» كان حلها بسيطاً اقله عدم التضحية بشخصية مصرية نزيهة استطاعت في فترة قياسية قلب المشهد وجلب الاحترام للدبلوماسية المصرية، في طيّ سريع لصفحة سوداء لم يتوان احمد ابو الغيط عن اضافة المزيد من العار لبلده وأمته, تحت تفسيرات ودعاوى متهافتة تفوح منها رائحة الدونية والتبعية والاهتراء؟
من السذاجة الاعتقاد ان ما اتى بالعربي الى الجامعة هو الحرص على «مصرية» منصب الامين العام الذي تواصل منذ عبدالخالق حسونة حتى عمرو موسى, باستثناء فترة انتقال مقر الجامعة الى تونس وانتخاب الشاذلي القليبي احتراماً لتقليد «دولة المقر».. كذلك من السذاجة الاعتقاد ان حكومة عصام شرف او المجلس العسكري الاعلى, فزعوا لأن القطري عبدالرحمن العطية توفر على اغلبية في مواجهة مصطفى الفقي, فالكل يعرف ان من ايدوا العطية انما في واقع الحال اعترضوا على «الفقي» الذي هو من رجالات ومنظّري نظام مبارك الفاسد, وكان بمقدورهم (الحكومة او المجلس العسكري) سحب ترشيحه على النحو الذي مارسه احمد شفيق عندما سحب ترشيح مفيد شهاب وقام (الفريق شفيق وابو الغيط) بترشيح الفقي الذي كان ذات يوم سكرتير حسني مبارك للمعلومات ورئيساً للجنة الخارجية في مجلس الشعب وجرى تزوير مقعده في الانتخابات الاخيرة واسقاط منافسه (الذي فاز) وهو من الاخوان المسلمين.
ثمة من لا يتردد (في مصر بالطبع) في استحضار نظرية المؤامرة بشكل او اخر على النحو الذي اخبرني اياه الاستاذ جميل مطر, المحلل السياسي عضو مجلس ادارة جريدة الشروق المصرية والدبلوماسي السابق, على مائدة افطار جمعتني واياه, على هامش حضورنا الدورة العاشرة لمنتدى الاعلام العربي في دبي بأنني (والكلام للاستاذ مطر) اخشى ان يكون هناك من اراد «إبعاد» العربي عن هذا المنصب, بعد أن حقق كل هذه الانجازات (السياسية والدبلوماسية) في فترة قصيرة..
وليس صدفة أن تلتقي معه شخصية مصرية اخرى لامعة وذات وزن ودور وحضور في المشهد المصري, وهو الدكتور جلال أمين, الاستاذ في الجامعة الاميركية في القاهرة, الذي كتب مقالاً في الشروق المصرية يوم اول من أمس الجمعة, يقول فيه «.. عندما شاهدت ما فعله الدكتور نبيل العربي لاصلاح السياسة الخارجية المصرية, في فترة لا تزيد على شهرين خطرت لي خواطر كثيرة أحب أن اشرك القارئ معي: هل هذا الرجل ساحر؟ زارنا فجأة فلمس بعصاه السحرية قضايانا الخارجية, الواحدة بعد الاخرى, فإذا بها تهب معتدلة ومستقيمة, بعد أن كانت تعاني من الانهيار التام الناتج عن الاهمال أو سوء المعاملة؟
هل كان ما نحتاج اليه حقاً لاصلاح علاقاتنا بايران, أن يأتي رجل واحد رشيد ليقول ثلاث كلمات فقط «ايران ليست عدواً», بدلاً من ذلك الكلام الفارغ عن اشتراك ايران في مؤامرات تهدد الأمن القومي؟ هل كل ما نحتاجه لبث ثقة الفلسطينيين فينا واعادة احترامهم لمصر أن نعين كوزير للخارجية, رجلاً قادراً على وصف ما قمناه به من حصار لغزة وحرمان سكانها, بوصفه الصحيح وهو لم يزد على كلمة واحدة, اذ قال ان هذا الحصار من جانب مصر عمل «مشين»..
لديّ رغبة باقتباس المزيد من هذا المقال الجميل, إلا أن المساحة لا تتسع وحسبي أن اتساءل مع الدكتور جلال أمين في نهاية مقاله «ألا يستحق المصريون وزيراً رائعاً للخارجية لأكثر من ثلاثة أو اربعة أشهر؟»..
خرج (أو أُخرِج) نبيل العربي القاضي في محكمة العدل الدولية ابان صدور قرارها بعدم شرعية جدار الفصل العنصري في العام 2004, والمستشار القانوني لملف «طابا» (وما ادراك ما طابا) وغيرها من المواقع المهمة التي جلبت له ولمصر الاحترام من وزارة الخارجية الى جامعة الدول العربية, في تجسيد للمقولة الادارية المعروفة «الطرد الى أعلى».. وأحسب أنها ليست صدفة ابداً..
... والأيام ستروي..