عمان- إبراهيم السواعير - (محمود صبري: حياته وفنّه وفكره)؛ هو الكتاب الذي أعدّه وقدّمه الدكتور حمدي التكمجي، ويوقعه في السادسة من مساء اليوم في الأورفلي. وهو كتابٌ شديد الفخامة، في إخراجه، وتنضيد حروفه، وضبط حواشيه، ونقاء ألوانه، وسعة مساحته، وعمق أفكاره وبحوثه؛ وهو من الترشيق بحيث يغدو قطعةً فنيّةً فاخرةً تليق بمحمود صبري(1927-2012)، كاتب المقالة والمشتغل على البحث وصاحب النظرية الفنيّة، والنشاطات الفنية والفكرية الوطنية والفلسفية.
وإذ يشحذ الدكتور التكمجي قلمه للكتابة ويرهن نفسه لإكمال الكتاب، الضخم(350 صفحة من القطع الكبير)، بكل ما فيه من مشقة وأمانة وإحالات وتمحيص وترتيب وتبويب وتصنيف وشروحات، في سبعة فصول، فإنّ القارئ يتوقع أنّه سيتنقل في بستانٍ من الفكر والفن والفلسفة؛ ذلك أنّ التكمجي كان يسافر في طلب وثيقة أو صورة أو يجمع بحثاً أو يتوخى معلومة إكراماً لصديقه الراحل، وهو ما يملي على القراء أن يحترموا هذا الوفاء النادر وتلك الصداقة التي لم تذهب برحيل أحد الصديقين.
واقعية الكم
التكمجي، الذي جاب أوروبا ليتيح سيرة صديقه ورفيق عمره الفنية والبحثية والفلسفية، لم يقطع أنفاس الكتاب في شهرٍ أو شهرين، بل كان يلازم المطبعة في النظر وإعادة النظر واقتراح نوع الخط وحجم الصورة، وتلك عادة المخلصين للفن والزمالة، وإذ نضجت الفكرة بالصبر والمواظبة والجدّ والتثبت، نقرأ عن هذا الفنان العالمي، في مقالاته التي هي فيض عقله وأفقه الواسع؛ فقد كتب عن مشكلة الفن العراقي المعاصر، ومشكلة الفنان العراقي، وبيان واقعية الكم، وواقعية الكم.. فن الإنسان العلمي، ودور الفن في القضايا العربية المصيرية، والتراث والمعاصرة في الفن، والدور الاجتماعي للفن.
لنستمر في عناوين الفصل الأول مع أسئلة وأجوبة والفنان ضياء الغزاوي، وواقعية الكم وبرتولت بريخت، وواقعية الكم بين الفلسفة وعلم الجمال(حوارٌ مع محمود صبري أجراه د.مجيد ماضي ود.فالح عبدالجبار والأديب جيان.).. ونقرأ، كذلك، بيان المثقف العراقي الجديد، وندوةً عن الماركسية المعاصرة، ومقالة حول المفهوم المادي للتاريخ.
الفلسفة والفن
يرصد الدكتور التكمجي مقالاتٍ كتبها مجايلو أو دارسو الفنان محمود صبري، وهي مقالاتٌ كتبها يحيى الشيخ في محمود صبري وحكمة الفقراء، ورفعت الجادرجي حول مقتطفة من كتاب الأخيضر والقصر البلوري، وعبدالباسط النقاش في محمود صبري الفنان الذي استهلم قضايا الشعب، ويوسف العاني في محمود صبري واغترابه المبكر. إضافةً إلى دراسة في فن محمود صبري أجراها عادل كامل، ومقالةٍ لفيصل لعيبي عن محمود صبري الفنان. وهكذا تستمر المقالات والكتابات عن محمود صبري؛ فتلك أمسية احتفالية بمحمود صبري صاحب الثمانين عاماً من العطاء الفكري والإبداعي المستمر، وهذه مقالةٌ كتبها بهجت صبري عن الرائد محمود صبري، ومقالةٌ لماضي حسن تناول فيها محمود صبري بين التنظير والرسم، وتلك تهنئة من الحزب الشيوعي العراقي للفنان الكبير محمود صبري، وهذا كامل شياع يكتب عن رحلة محمود صبري الإبداعية، وعبدالله حبة يعرّف بمحمود صبري الفنان والمفكر، وشهادات لثمينة ناجي يوسف عن محمود صبري، ونداء من مصدق الحبيب: (لا تضيّعوا الفنان محمود صبري!)..، ومقالة لصادق الصائغ عن الفنان محمود صبري، وعلي العساف عن محمود صبري الفنان الذي يعيش عصره، وغالب طعمة فرمان عن محمود صبري، ومقالة لسعد القصاب عن الفنان المنظر محمود صبري، وعلي البزاز عن محمود صبري بين عالمين، وجاسم المطير عن محمود صبري بين الفلسفة والفن، ومقالة لفرح شوقي حول المدى الثقافي في ندوة أقامتها دائرة الفنون التشكيلية، ومقالة لحمدي التكمجي عن هادي العلوي ومحمود صبري، والطبيب الفنان د.خالد القصاب ومحمود صبري، والفنان الكبير جواد سليم ومحمود صبري.
(واقعيّة الكم) عند محمود صبري موضوعٌ حفز مفيد الجزائري ليكتب عن معرض الرسام محمود صبري في براغ عام 1971، كما حفز محمد الجزائري ليكتب عن بحث في العلم عبر سبعة آلاف سنة من (أيا). كتب إسماعيل زاير بمناسبة ثلاثة عقود على محمود صبري وعناء (واقعية الكم)، كما كتب د.عدنان الظاهر عن الفنان محمود صبري ونظريته في واقعية الكم، مثلما كتب ساطع هاشم مقالةً بعنوان (هذه هي واقعية الكم)، وصادق الصائغ حول واقعية الكم: شيفرة المستقبل(2008)، ومكية الشامي عن المعرفة العلمية وأثرها في بناء الصورة الفنية، وعادل كامل عن محمود صبري: الريادة وتدشينات الخطاب النقدي، وكتب جواد الزيدي عن واقعية الفنان محمود صبري.
فقيد الفن
في الفصل الرابع من الكتاب ينشر الدكتور حمدي التكمجي مقتطفاتٍ من الرسائل التي كانت بينه وبين محمود صبري، تلخصت في رسالة كتبها محمود صبري عام 1989 كان فيها يأمل بأن تتحسن الأوضاع في العراق، ورسالة في العام ذاته عن أهمية الفكر، ورسالة عام 1995 حول أهمية الاختبارات الصحيحة في الحياة، ورسالة حول بعض نشاطات محمود صبري الفنية والفلسفية، ورسالة عام 1999 حول الفلسفة الماركسية وسقوط النظام في الاتحاد السوفييتي، وهي الأفكار التي كان يدين بها منذ الستينات، ورسالة إلى محمود صبري من فيزيائي بريطاني، ومقتطفات من رسالة محمود صبري لحمدي التكمجي حول الحداثة والفلسفة والعلم كتبها عام 2002، ورسالة من محمود صبري لحمدي التكمجي حول رأيه في الأوضاع السياسية في العراق واقتراحاته المبكرة في تثبيت وتحسين وتطوير هذه الأوضاع بعد عام 2003.
كما يجمع التكمجي جملة مقالات ونشاطات حول محمود صبري عقب وفاته، منها نعي الحزب الشيوعي للفنان الكبير، ومجلس عزاء الراحل محمود صبري الذي أقامه الحزب الشيوعي العراقي، ومقالة لعادل حبة بعنوان (وداعا يا صاحب المانيفستو)، بالإضافة إلى تعزية لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في المملكة المتحدة.
التكمجي كان كتب، إضافةً لهؤلاء، عن محمود صبري فقيد الفن والفكر، كما كان كتب سنان أحمد حقي مقالة بعنوان(وقفة أمام فن خالد)، أما عبدالله حبة فكتب عن المنابت الفلسفية لفن محمود صبري، كما كتب ساطع هاشم مقالة بعنوان (فنان الحواس المعانة محمود صبري.. وداعاً). من الأنشطة نذكر تأبين مجموعة من الفنانين التشكيليين والمعاصرين والمبدعين العراقيين في إيطاليا، ونعي منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا للمناضل الفنان الكبير محمود صبري. ونقرأ مقالة للدكتور مهدي الحافظ عن محمود صبري: الفنان والمفكر، وألفريد سمعان عن الراحل محمود صبري لوحة الخلود، أما أمجد حسين فاستذكر الفنان الراحل محمود صبري في عمان، في حين كتب مفيد الجزائري عن إحياء أربعينية الراحل الكبير في براغ، وعن محمود صبري الإنسان والفنان المفكر. كما ودع المنتدى العراقي ومركز الجواهري في براغ حزيران 2012 الفنان تحت عنوان: وداعاً محمود صبري!
في الفصل السادس نحن أمام رسومات لشهداء الحركة الوطنية، وقد أنجز محمود صبري ألبوماً يحتوي على 12 لوحة زيت تخليداً للشهداء، ولا سيما جماعة الحزب الشيوعي الذين أصابهم القتل والحبس والتشريد والظلم بكثرة، بقصد تصفية الحركة الوطنية والتقدمية وتجهيل الشعب العراقي وإرجاعه عشرات السنين إلى الوراء، بحسب المؤلف، وذلك، كما يقول، عقب انقلاب 1963، وبعد سنة 1968. من الشهداء جمال الحيدري، ومحمد صالح عبللي، وهما عضوان في المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي وسلام عادل سكرتير الحزب، وفهد يوسف سلمان مؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي.
في الفصل الأخير نقلب صوراً للراحل محمود صبري بمفرده أو مع زوجته برسيا أو ابنته ياسمين أو والدته أو أصدقائه أو زملائه الفنانين تحمل رائحة ذلك الزمان، في الخمسينات، أو في افتتاح الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله إحدى معارض الرسم في تلك الفترة. ونتوقف عند صور تكاد تتكلم مع صديقه حمدي التكمجي وأصدقاء كثيرين.
الكتاب، الذي ذُيّل بملخص باللغة الإنجليزية، وشرح لنظرية واقعية الكم بالصور والمعادلة، كُتب عنوانه بخط فنانٍ حاذق، وتصدرت غلافه الداخلي لوحة وطنية بقياس خمسمئة في تسعين سنتمتراً، كان الراحل بدأ رسمها في بغداد وأكملها في موسكو وبراغ.
شارع الأمين
تقديم الدكتور التكمجي للكتاب تطرق فيه إلى ذكريات كان فيها محمود صبري وأخوه حافظ التكمجي في منتصف أربعينات القرن الماضي من الأوائل في الإعدادية المركزية وكانا صديقين حميمين؛ حيث (مكتبة الطريق) في شارع الأمين، التي جاءت باقتراح من محمد عبللي، وهي مخاض لعدة مكتبات صغيرة على شكل دكاكين في شارع غازي(الكفاح لاحقاً). يتطرق التكمجي إلى تلك الكتب الوطنية واليسارية الثورية؛ فكانت كتبٌ تقدمية منها كتاب(الحرية) لهاورد فاست، غير أن المكتبة لم تستمر، إذ أغلقت مكتبة بغداد بسبب نشرها كتاباً بعنوان (ما هي الماركسية؟!).
هكذا يسير التكمجي يشرح بتسلسلٍ يدل على رحابة ما لديه، ماراً بصداقة محمود صبري ومحمد عبللي وتلك الأيام، إذ غاب محمود صبري ليدرس في مصر،..ثم في إنجلترا، في حين ذهب حمدي التكمجي يدرس في أميركا أواخر أربعينيات القرن الماضي، لتمر السنون عقب الدراسة، وأولئك الرعيل: خالد الجادر وإسماعيل الشيخلي والدكتور إبراهيم السامرائي والدكتور صفاء الحافظ، وقد كانوا طلاباً ينشدون العلم في باريس مرّ عليهم التكمجي هناك.
مثقفو الخمسينيات.
يذكر التكمجي مثقفين في بدايات الخمسينات من القرن الماضي، منهم الدكتور قتيبة الشيخ نوري، والدكتورة سميرة بابان، ومبجل بابان، ود.رافد بابان، وبلند الحيدري، وعبدالوهاب البياتي، وعبدالملك النوري، ويوسف عبدالقادر، وذنون أيوب، ومحمد عبدالوهاب، وصلاح خالص ويوسف العاني وصفاء الحافظ ولمعان البكري وعيسى حنا وخالد القصاب ورفعت الجادرجي وإسماعيل الشيخلي وخالد الجادر.. وآخرون.
هذا التقديم هو سيرة تنفتح على سير؛ حيث رسوم محمود صبري منذ نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، في أسلوب كان يتطور بشكل مميز مجسداً الفلاحين والعمال والمظاهرات والمناسبات الوطنية، وكل هذه اللوحات هامات شديدة البأس ومعبرة عن العمل والكفاح والنضال، من مثل ثورة الجزائر والشهيد نعمان ولوحة الفلاحة، وهي لوحات احتفظ بجزء منها حمدي التكمجي، الذي رأى في محمود صبري فناناً ومثقفاً ومفكراً، حيث مجلة(الثقافة الجديدة)، مطلع الخمسينات.
يتطرق التكمجي إلى ثورة 14 تموز عام ثمانية وخمسين من القرن الماضي، وسفر محمود صبري إلى موسكو عام ستين ليغني نشاطه الفني ويطلع على تجارب جديدة، في الوقت الذي كان فيه التكمجي يحصل على إجازة دراسية لدراسة الدكتوراة في موسكو عام اثنين وستين.
ويتطرق التكمجي، كذلك، لانقلاب شباط 63، ولجنة الدفاع عن الشعب العراقي، وهو النشاط السياسي الذي لم يثني محمود صبري عن نشاطه الفني المميز، حيث العودة إلى العراق عام ثلاثة وسبعين، ليعود إلى براغ ينشد الحرية، ويشارك في ندوات في عدة مدن بأورويا، مثلما شارك في أول مؤتمر للمعارضة العراقية 1991 في بيروت، فاستمر في الكتابات والمحاضرات الفنية والسياسية والفلسفية حتى وفاته.
يشرح التكمجي نظرية محمود صبري في (واقعية الكم) في الرسم من منظور الراحل ومن منظور من درسوه، ليتحدث عن تأثره بالفلسفة الماركسية؛ غير أنه لم يؤمن بأن المسألة المادية في الفلسفة الماركسية هي المسألة الوحيدة المحركة للتأريخ والحياة، وقد كان عاش معيشةً صوفية زاهدة، يترجم المقالات والأبحاث السياسية والفلسفية ويعتاش منها، فقد كان رائداً، ومجدداً، ومبتكراً في الفن والسياسة والفكر.
مشقة البحث
يذكر التكمجي مشقة بحثه عن الصور وتفتيشه عن الوثائق، وكل ذلك استغرق وقتاً طويلاً بين بغداد وموسكو وبراغ وبرلين ولندن وعمان؛ فقد كان محمود صبري لا يحتفظ بصور فوتوغرافية عن جميع صوره مثلما لم يحتفظ بجميع المقالات التي كتبها أو كتبت حوله.
الكتاب الذي أخرجته المصممة الفنانة الرسامة كفاح الشبيب، فأضفت عليه من إحساسها المثقف وخبرتها الطويلة ونفسها الإبداعي، يعد كتاباً مهماً في مستخلصاته الفنية والفكرية، ومرجعاً لا غنى عنه لرسائل الماجستير والدكتوراة التي تدرس محمود صبري في حياته وفنه وفكره.