انطلقت بنا الحافلة من مدينة ملقة على الساحل الجنوبي الغربي لأسبانيا متوجهة إلى مدينة قرطبة التي تقع على ضفاف نهر الوادي الكبير (كوادي الكلآير بالأسبانية). وصلت قرطبة إلى قمة مجدها في عهد الحكم العربي عام 922 ميلادية حيث أصبحت مركز الخلافة الإسلامية وبلغ عدد سكانها ربع مليون شخص وضمت مكتبتها نصف مليون كتاب ومرجع. من أشهر معالم قرطبة المسجد الشهير الذي بناه الملك عبد الرحمن وأكمل بناءه الملك المنصور. أما مدينة غرناطة فقد بنى فيها العرب قصر الهمبرا (الحمراء) الشهير بزخارفه وحدائقه. أخبرنا دليل الرحلة الإسباني عن الفلامنكو وهي الرقصة الشعبية الأسبانية. كلمة الفلامنكو والتي تعني الغجري تشير إلى رقصة نشأت في منطقة الأندلسية في اسبانيا وهي مزيج من الرقص الغجري والأندلسي والعربي. فن الفلامنكو يحتاج لسنوات عديدة من الدراسة المرهقة والتدريب المكثف. الراقص والراقصة يجب أن يكونا ناضجين عمريا وفنيا للدخول إلى معترك الفلامنكو وذلك حتى يستطيعا أن يذوبا تماما في روح الرقصة ولذلك نجد أن معظم الراقصين هم فوق الثلاثين من العمر ويستمرون في الرقص حتى الستين. بالنسبة للعزف على غيتار الفلامنكو فهو فن خاص قائم بذاته. الجدير بالذكر أن الموسيقار العربي زرياب الذي عاش في الأندلس أضاف إلى آلة العود الموسيقية العربية التقليدية وترا خامسا فنشأت منها آلة الغيتار. تطور الغيتار عبر القرون إلى أن وصل إلى ما هو عليه الغيتار الكلاسيكي ذو الأوتار الستة. ذهبنا في المساء لمشاهدة الفلامنكو الذي أصبح جزءا هاما من أي رحلة تقوم بها إلى اسبانيا. عازف جيتار وقارع طبل ومغن يشكلون الفرقة الموسيقية. إيقاع الموسيقى أخاذ وصاخب ومتقن، يسرع تارة ويبطئ تارة أخرى. الراقص يدور في الحلبة تحت الضوء الكاشف الساطع وباقي المسرح يغرق في ظلام دامس ... رشاقة ولياقة وإتقان، تواصل وتناغم ومناجاة. توزع نظراتك بين راقص الفلامنكو الوسيم في بدلته البيضاء وراقصة الفلامنكو التي ترتدي ثياب نساء اشبيلية الفضفاض المنقط. الراقص فارع الطول رائع القوام والراقصة حسناء ذات عينين سوداوين وشعر معكوف. تشاهد الرقص التعبيري بالذراعين واليدين حيث أصابع اليدين تأخذ أشكالا مختلفة فهي تصد وترد، تبدي وتتمنع، تدعو وتنادي وتتألم. أما وجوه الراقصين فقد حملت مساحات من تعابير السعادة والشقاء ومن معاناة المحبين ومن اللهفة والترقب والانتظار. أكثر شيء مميز في رقصة الفلامنكو هو ضرب الأقدام المتناغم على الأرض. القدم تدق خشبة المسرح بكعب الحذاء تارة وبمقدمة الحذاء تارة أخرى. أقدام الراقصين تتحدث مع بعضها بلغة استطاعت عقولنا أن تترجمها وتفهمها. العرق الغزير يتساقط من شعر راقص الفلامنكو المبتل مثل رذاذ ماء يتطاير من شلال. حدة التعابير الجسدية واضحة في رقصة فيها رجولة وكبرياء وعنفوان من الراقص وأنوثة وسحر ودلال من الراقصة. تحاول أنت أن تتابع ما يحدث أمامك فلا تستطيع. أنفاسك تتسارع وقلبك يدق مسرعا. تميل بجسدك إلى الأمام وإلى الخلف وأنت جالس على كرسيك. تترقب فتصاب بالدهشة عندما يتوقف الراقصان فجأة في لوحة رائعة مع توقف الموسيقى. تأخذ نفسا عميقا وتهتف مع الآخرين برافو. مرحى لأداء يحترم عقل المشاهد ولعطاء يدل على جهد خارق وفن رفيع وموهبة استثنائية.