بتمـــون علـــيّ .. وبمــــون عليـــك ؟!

بتمـــون علـــيّ .. وبمــــون عليـــك ؟!

إبراهيم كشت - في لهجتنا العامية المحكية ، إذا قصدتَ وصف شخص بأنه لا يملك تأثيراً فيمن حوله، أو لا يملك حتى قراره بنفسه ، ربما قلتَ بأنه : «ما بمون على حاله ...» ، وإذا أَرَدْتَ «تخجيل» شخص ما لكي يجيب طلبك ، فربما تسأله باستنكار : (يا رجل ... ما بمون عليك؟)، وإذا شِئتَ أن توحي لشخص طلبَ إليك أمراً أنك إنما ستنفّذ طلبه تقديراً له ، فإنك تبادره بالقول : (بتمون ..) ، أو ببعض العبارات الأكثر مجاملة مثل : (بتمون على شواربي ..) (بتمون على راسي ...) ، وإذا أردت التهرّب من إجابة الطلب قد تقول : (بتمون على رقبتي، إلا في هذه ...!) أو (انت بتمون ، ولكن ...) .محاولة لفهم مدلول لفظ «يمون ..» و»لا يمون ..» : تستخدم كلمة (يمون) وتصريفاتها في لهجتنا العاميّة الدارجة على نطاق واسع ، وهي تحمل دلالةً ذات أبعاد اجتماعية يفهمها من يستخدمون هذا اللفظ ويتداولونه ، حيث أن معنى هذه الكلمة مرتبط بثقافة معينة تسود في المجتمع ، وتتمثل بشكل أساسي في وجود اشخاص يملكون تأثيراً على أفراد آخرين ، وهو تأثير يمكن استخدامه في مجال حلِّ النزاعات مثلاً ، أو في عقد الصلح ، أو التسامح في بعض الحقوق ، كما يمكن استخدامه في الواسطات والمحسوبيات ، أو في الانتخابات ، أو غيرها . وأن (يمون) شخص عليك لا يعني أنه يأمرك ، ولا يقصد به أنه يرجوك ، ولا أنه يشعر بمجرد الأمل في أن تستجيب له ، ولكن يعني أنه يملك تأثيراً عليك لاعتبار ما ، قد يتعلق بمرتبته الاجتماعية ، أو نفوذه ، أو علاقة القرابة أو الصداقة التي تربطه بك ، أو لمعروف سابق كان أسداهُ إليك . وبموجب هذا التأثير فإنك تكون مستعداً - عن طيب خاطرٍ حقيقي أو ظاهري - لأن تنفذ طلبه ، وقد يكون هذا الطلب صعباً أحياناً ، كما قد تكون رفضت الاستجابة له ذاته (أي ذلك الطلب) حين تقدم به إليك شخص آخر (لا يمون عليك) .ومحاولة للبحث عن الأصل اللغوي للفظ :أعتقد أن لعبارات (بتمون عليَّ – بمون عليك – بمون عليه) في لغتنا العامية المحكيّة معنى خاصاً ، لا تجد له الدلالة ذاتها لو قمتَ بتجريد الكلمة وردّها إلى أصولها اللغوية الفصيحة . لكن الربط بين الألفاظ واشتقاقاتها ومعانيها قد يهديك إلى أصل نشأة هذا التعبير بمدلوله المستخدم في اللغة العامية ، وذلك هو حال الكلمات في اللغة ، قد تتبدل مدلولاتها بمرور الزمن ، لكنها تبقى غالباً ذات صلة بمعناها الأصلي . ولعل في تتبُّع الروابط بين الألفاظ بمفاهيمها الحالية ومعانيها الأصلية ، ما قد يشير أحياناً إلى دلالاتها العميقة المرتبطة بالنفوس .وأَحسَبُ أن استخدام لفظ (يمون) بمعانيه المتقدمة المقصودة في اللغة العامية يعود في أصوله اللغوية إلى (مانَهُ ، يَمونُهُ ، مَوناً) بمعنى احتمل مؤونته وقام بكفايته (أي تولى تكاليف معيشته وإعالته) . ويقال مانَ الرجل أهله يَمونهم موناً ، بمعنى أنفق عليهم وعالهم (أنظر في ذلك لسان العرب ، وغيره من المعاجم العربية) . وقياساً على هذا المعنى فإن الذي يمون وفق أصل اللغة هو المعيل أو هو مصدر الرزق بالنسبة لشخص آخر ، وبناء على ذلك فلا بد أن يملك هذا الذي (يمون) تأثيراً فيمن (يمونهم) ، فهو يطلب منهم وهم يلبونه في الغالب ، بسبب تبعيتهم الاقتصادية له وإعالته لهم . وربما من خلال معنى هذا التأثير استخدم لفظ (يمون) بدلالته العامية التي تشير إلى من يملك تأثيراً في الآخر يجعله يستجيب لطلبه (حتى وإن كان لا يعيله) .علاقة ثقافة (يمون) بالإعالة المعنوية :ومما قد يعزز هذا الفهم المشار إليه في الفقرات السابقة ، أن (الإعالة) بارتباطاتها النفسية قد لا تكون مجرّد إعالة مادية ، فثمة إعالة معنوية ، حيث أن الذي يستمد شعوره بقيمته الذاتية والاجتماعية من شخص آخر ، بما يقدمه له هذا الآخر من إمكانيات الالتحاق بالدراسة والعمل والترقي وتحقيق المكانة مثلاً ، لا بد أن يشعر بأنه معالٌ من قبل هذا الشخص ولو من الوجهة المعنوية ، فكأن هذا الأخير (يمونه) أن يعيله . وبالتالي يكون له تأثير واسع عليه ، أي أنه (يمون عليه) على نحو كبير .أبعاد ودلالات إجتماعية لمفهوم «يمون» :ومسألة أن (تمون على شخص) أو (يمون عليك) مسألة لها مدلولاتها ومعانيها في مجتمعنا كما تقدم ، ففي الانتخابات النيابية أو البلدية أو النقابية أو الطالبية أو سواها ، قد يقال إن فلاناً يمون على خمسمائة صوت مثلاً ، تأكيداً لأهمية وضعه وتأثيره . وحين تكون هناك حاجة لدى شخص في مؤسسة خاصة أو عامة ، ويكون القرار فيها لمسؤول معين ، ويجد صاحب هذه الحاجة صعوبة في أن يستجيب له هذا المسؤول ، فقد يسأل عمن (يمون على ذلك المسؤول) ، لكي يراجع (هذا الذي يمون) المسؤول ، ويطلب منه تسهيل المعاملة وإنجازها بواسطته ، لكونه (يمون عليه) ، ويضمن إجابة طلبه . الجانب الايجابي والجانب السلبي في ثقافة «يمون» : وقد تكون لهذه الثقافة المتّصلة بمن (يمون أو لا يمون) جوانبها الايجابية ، إذا تعلق الأمر بأن (يمون) شخص على غيره فيما يخص التسامح مع الآخرين مثلاً ، أو في تقديم خدمة أو مساعدة (لا تنتقص من حقٍ ، ولا تقرُّ باطلاً) ، ولكن هذه الثقافة قد تكون في كثير من الأحيان أداة فاعلة من أدوات المحسوبية (الواسطة) ، وذلك في الحالات التي يطلب فيها شخص وظيفة أو ترقية أو ميزة أو خدمة تخالف القانون أو تنافي العدالة أو تنقص من حق الآخرين ، فيروح يبحث عمن (يمون) على من بيده الأمر لتسهيل الاستجابة لطلبه ، ولا يملك حينها هذا الأخير إلا أن يستجيب ! ويكون لثقافة «يمون» بُعدُها السلبي أيضاً حين تتعارض مع الاستقلالية وحرية القرار، وحين تحمل في جوانبها دلالة على التبعية ، كما هو الحال في كبير العائلة أو العشيرة حين (يمون) على أتباعه بانتخاب شخص دون سواه ، أو حين (يمون) عليهم بتغيير اتجاهاتهم وقراراتهم تبعاً لرأيه ، حيث تظهر هنا ثقافة (يمون ولا يمون) بصورتها السلبية التي تشير إلى انصهار الفرد في الجماعة ، وفقدانه لقراره الذاتي الذي قد يكون قائماً على الموضوعية ، ومخالفاً لرأي من (يمونون عليه) .Kasht97@yahoo.com