سافرت بمعية الدكتور منذر حدادين إلى نيويورك لحضور مؤتمر دولي، كان هذا قبل ثلاث سنوات وفي حينه كان الدكتور منذر ينفذ حمية فريدة وقاسية لإنقاص وزنه لدرجة أنه حمل أكله معه من عمان بكيس شفاف كان يحرص عليه ويقفله بعناية، ولم يتناول من وجبات الطائرة غير الماء والشاي فأكل الطائرات دسم على قوله، وقد دفعني الفضول للإطلاع على زوادة الدكتور منذر...فماذا كان بداخل كيسه البلاستيكي يا ترى؟ حفنة من اللوز المسلوق وحبتان من البندورة ووريقات من الخس، وكأنهم في الولايات المتحدة لا يعرفون اللوز والبندورة والخس، وعلى اية حال فان الدكتور منذ حدادين كان ولا يزال اكثرنا معرفة وخبرة بالحياة الاميركية فهو تعلم هناك وتزوج من هناك كما ان ابناءه يقيمون هناك ايضا..
ومع ذلك اصر على حمل اللوز والبندورة من هنا من ( بندوراتنا وخساتنا ولوزاتنا) ربما لتعلقه بقضية الزراعة والري وبالتالي ثقته التامة بالمنتجات الوطنية، على الاقل في تلك المرحلة من الزمن قبل ان تتسرب الينا مياه مزارع التماسيح من اسرائيل.
لم يكن في زوادة الدكتور منذر غير هذه المكونات، ولما وصلنا نيويورك ومكثنا في الفندق لم يشاركنا الوجبات والولائم على اختلافها، بل أكل الخضار فقط واستعان بكيس اللوز(الوطني) للحصول على البروتينات...وفوق ذلك مارس رياضة صارمة، فقد مشى وهو أبن سبعين سنة -على حد تقديري وليس باعتراف منه - مسافة عشرة كيلومترات من الفندق وحتى منطقة برجي التجارة المدمرين ثم العودة...وفي اليوم التالي كرر الرحلة معنا، كان أسرعنا وأكثرنا حماسة لقطع المسافة دون اختصارها وكأنه يتمرن لخوض سباقات المشي، وكان لا يتحدث إلا عن طرائق التخسيس ومضار السمنة وأنظمة الأكل المفيد وما بين فينة وأخرى يتحدث عن ماعين.
في ذلك الوقت قال الدكتور منذر أن وزنه أقل من سبعين كيلوغراما وانه خسر أكثر من ثلاثين خلال عدة أشهر فقط بمحض إرادته وبتصميم منه، وكان ذلك واضحا على حالة الهزال التي اصابت جسدة ومع ذلك لم يكف عن اسداء النصائح لنا بالتوقف عن تناول الطبيخ الدسم خاصة اذا تضمن الهبر...
قبل عدة أسابيع التقيت الدكتور منذر في مؤتمر آخر ولكن هنا في الأردن، كان كما عرفته قبل سنوات من رحلة نيويورك ممتلئ الجسم عريض الكتفين وقد استعاد سمنته المتوسطة التي تعودنا معرفته عليها، ولكنه لم يفقد نشاطه وحيويته المعتادة وخاصة في القضايا السياسية وحفظ الشعر...أدهشتني ردته عن تخسيس وزنه فبادرته بالسؤال عما جرى ولماذا أقلع عن نظام الحمية بعد ان حقق ما حقق من نجاح؟ رد بأعذار مختلفة ثم أضاف بأسى ؟ شو بدك راحت علينا...والله من سنتين ثلاث ما أكلت أكله مسعده...! ادركت على الفور انه ندم على تفويته عدة اكلات، فالاكل المسعد بالنسبة اليه ليس ما ينصحنا به الاطباء دائما وأطرقت لحظة أفكر في مثاليات الحياة وتساءلت : ترى هل خسر منذر حدادين سنتين من حياته لمجرد انه لم يأكل ما أشتهى فحرم نفسه من أطايب الأكل...ثم وجدتني أهز رأسي وأتطرف في التساؤل : يا لطيف كيف تنازل الدكتور منذر عن المنسف الأردني لثلاث سنوات كاملة، وكيف تخلى عن المكمورة والمطمورة والزرب والكوارع والفوارع والنخاعات وقلايات البندورة الدسمة، وكيف قضى سنتين بدون كنافة ومبرومة وبقلاوة وغيرها من الطبخات والحلويات العربية الكفيلة باستسلام اي جسم لمصيره وتركه ضحية للادوية المثبطة تارة للدهون الثلاثية واخرى للكوليسترول والسكر، وكدت وانا اتأمل هذا الاردني صاحب السنوات الطويلة في الخدمة العامة في اصعب الميادين واكثرها تماسا مع حياة الناس وزرعهم ان اسأله عما اذا كان الريجيم وبروتوكولات التنحيف على اختلافها تستحق التنازل عن متعة الدحبرة بالاصابع الخمسة وفصفصة عظام الرأس لانتزاع اللسان ومن ثم توزيع جزئياته على المجتمعين حول المنسف امعانا في الكرم، وهل من الوطنية التنازل عن الطبخة التراثية الاولى من اجل الحصول على قوام رشيق؟ اظنه كان سيجيب بنعم ولذلك لم أسأله بل تركته يعوض ما فاته من مناسف خلال سنتين من الاضطهاد الطوعي الذي تعرض له، وفي الاثناء نادى المنادي داعيا المشاركين في المؤتمر الى غداء عمل يتكون من حوالي عشرين صنفا من الطبخات وانواع السلطات المختلفة والمقالي والمشاوي فانقطع الحديث واصطف الجمهور كل صحنه بيده ومعلنين على الملأ ان لا لهذا العدو الخارجي المسمى ريجيم..!.